يمكن أصحابه من أن يكون لهم سلطان (كامل) على الفكر والعلم وعمارة الأرض، وعلى الصناعة والتجارة وأسباب القوة التي ترغم على الاعتراف لها بالغلبة والسيادة. وهو على إيجازه واختصاره لا يحتاج إلا إلى استدراك ضرورى، وهو أن حضارة الأمة مرتبة لاحقة، لابد أن يسبقها أساس ترتبط به ارتباطا لا فكاك منه البتة. وبهذا الأساس تتميز حضارة من حضارة تميزا جوهريا وتتميز به غلبتها وسيادتها حتى يصح أن توصف بأنها حضارة شريفة كريمة، أو حضارة لئيمة المنبت خسيسة الأصل.
وهذا الأساس هو الذي عنيته بقولي آنفا "إن الحضارة بناء متكامل لا تستحقه أمة إلا بعد أن تجتاز مراحل كثيرة معقدة التركيب". فأساس الحضارة هو هذه (المراحل الكثيرة المعقدة التركيب) وهذه المراحل هي الشيء الذي يحتاج إلى تفسير دقيق صحيح. وقد وقع أهل زماننا على اصطلاح سموا به هذه المراحل المعقدة وهو لفظ (الثقافة) وينبغي أن أكون واضح العبارة عند هذا الموضع لأنه هو منبع الخطر الذي لم نزل نعانيه في هذا القرن الأخير، وهو المدخل الخبيث إلى كل وسائل التدمير التي يُكاد بها لعالمنا هذا. فأول كل شيء، أجده لزما على أن أعيد ما قلته مرارا منذ حملت هذا القلم الذي طال صدأه بانقطاعى عن الكتابة، وهو وجوب الفصل فصلًا تاما بين (العلم) بمعناه الحديث وبين (الثقافة)، لأن العلم تراث إنساني ممتد من أقصى الجهود التي نعرف تاريخها إلى يوم الناس هذا، وإلى غدهم فيما يستقبل، ولكن الذي ينبغي أن نحذره فهو أن ندخل نحن أو أن نقبل من عدونا أن يدخل، على مفهوم "العلم" شيئا وهو عنه بمعزل، ومع ذلك فأنا لا يمكن أن أدعى أن هذا الفصل سهل يسير لأن التداخل بين (الثقافة) وبين (العلم) واقع لا شك فيه، ولكن أكثر فروع (العلم) يسهل فيها تميز هذا التداخل، وبعضها يحتاج إلى جهد -وصبر وتبصر، حتى يخلصها الدارس البصير شيئا فشيئا، لتصير علما خالصا يستحق أن يقال فيه أنه تراث إنساني مشترك دائم النمو، ودائم التغير أيضا، طبقا للمناهج التي يهتدى إليها العقل الإنساني وما يتبع ذلك من مناهج التطبيق التي تجعل العلم قادرا على المشاركة