كثيرة من القوة، ترغم سائر الأمم على الاعتراف لها بالغلبة والسيادة، وإذا صح هذا، وهو صحيح إن شاء الله، فالذي لا شك فيه أن عالمنا نحن اليوم ليس له سلطان (كامل) على هذه الأصول والشروط التي يستحق حائزها أن يسمى ما هو فيه (حضارة)، والذي لا شك فيه أيضا أن عالم الاستعمار الذي نصارعه، هو المستحق اليوم، والى أجل محدود، أن يسمى ما هو فيه (حضارة) لأنه يملك هذا السلطان على الفكر والعلم وعمارة الأرض وعلى الصناعة والتجارة وعلى أسباب قوة باغية ترغم العالم على أن يعترف له بالغلبة والسيادة. وإذن فمن المغالطة المعيبة أن نلهج نحن بوصف هذا الصراع الذي لا شك في أنه كائن ومستمر بأنه صراع بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية. ومن الضرر البالغ أن نظل في غيبوبه تحول بيننا وبين الفهم الصحيح لطبيعة هذا الصراع الذي لا خفاء فيه ولا لبس في أنه واقع ومستمر.
وإذا كنت قد استطعت في هذه الألفاظ القليلة أن أوضح ما يكتنف قضية الصراع من الغموض الذي نتورط نحن فيه بسلامة نيتنا، والذي سعى عالم الاستعمار بأساليب مختلفة أن يجعلنا ننغمس في أمواجه المضطربة بمكره وبسوء نيته، فإني أعلم أنى قد أثرت بهذا الوضوح سؤالا ينبغي أن يردده كل من يسمع كلامي أو يقرؤه .. وهو سؤال لا مفر منه، ولا غنى عنه أيضا. يقول السائل: فخبرنا إذن، ما هي حقيقة هذا الصراع الذي يدور في عالمنا بيننا وبين عالم الاستعمار؟
وجواب هذا السؤال أمر "عسير" كل العسر. لأنه في زماننا هذا أصبح محتاجا إلى حيطة مضنية في إزالة كل لبس يخالط معنى (الحضارة) وفي تحديد حقيقتها تحديدا صارما في أذهان عالمنا هذا -وأصبح محتاجا أيضا إلى دقة بالغة في تفسير ما عنيته بقولي آنفا:(إن الحضارة بناء متكامل، لا تستحقه أمة إلا بعد أن تجتاز مراحل كثيرة معقدة التركيب) وسأحاول في جمل قليلة مفيدة، إن شاء الله أن أبلغ بالوضوح إلى مطلع ينير لنا الطريق. أما لفظ (الحضارة) فعسى أن أكون قد حددته تحديدا واضحا مجزئا حيث قلت: (إن الحضارة بناء متكامل،