كل هذا الحرص، وكل هذا الالتزام، ثم يدع قراء كتابيه في حيرة من أمر ألفاظ أخرى "محورية" كما يقول؟ . وهذه الألفاظ "المحورية" كثيرة في الكتابين، ولكن هناك ثلاثة ألفاظ يدور عليها ما في الكتابين جميعا؛ وهي أيضًا من أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة الناس في أيامنا هذه، وهي أيضًا ألفاظ محدثة، ينطبق عليها أشد الانطباق، ما قاله الدكتور آنفا "كأنما هي من الوضوح بحيث لا يسأل عن تحديدها، مع أنَّه إذا لم تكن أمثال هذه الكلمات غامضة مبهمة، فأين تجد الغموض والإبهام؟ ". وهذه الألفاظ هي:"التراث" و"الثقافة" و"الحضارة" فلو التزم الدكتور زكي بمذهبه الفلسفي، لكان من حق قرائه عليه أن يعرفوا؛ على الأقل، ماذا يريد هو باستعمالها؟
لم يغب هذا عن الصديق الكريم، ولكنه أتى بشيء عجيب جدا في سبب إغفالها، فإنه أشار في (تجديد الفكر: ٦٦) إلى أن في ذهنه معاني كلية، يريد التحدث عنها، كمعني "الثقافة" ومعني "التراث"، وقال:"فما أسهل أن أسوق ألفاظا كهذه بمعانيها المجردة الخالية من التفصيلات والعناصر" -ومع ذلك فلم يكلف نفسه مشقة تحديدها أو تحليلها، بل العجب العاجب أنَّه لما بلغ (ص: ٦٩) ذكر "الثقافة" ثم قال: "إن سؤالا ليفرض علينا نفسه قبل هذا السؤال، وهو: ماذا تعني بالثقافة؟ ولقد طرح هذا السؤال؛ وتنوعت الإجابات عنه؛ حتَّى أصبح موضوعا تمجه النفس، ولذلك فلست أنوى الوقوف عنده لا طويلا ولا قصيرا، وسأترك للقارئ حرية كاملة في أن يفهم من الكلمة ما يشاء".
كيف يكون هذا؟ وأي معنى إذن لالتزام المرء بمذهب فلسفي يقوم على تحليل الألفاظ والقضايا؟ وهل يصح أن يضرب الفيلسوف عرض الحائط بمذهبه، لأن تنوع الإجابات، جعل اللفظ أو القضية "موضوعا تمجه النفس": هذأ أمر غريب جدا. وهل تحل المشكلة، بأن يبيح الفيلسوف للقارئ أن يكون حرا حرية كاملة في أن يفهم من "الكلمة" ما يشاء؟ هذا هدم لأصول المذهب، وهو حرى أن يوقع القراء في التخبط والخلط؛ ولاسيما إذا كان "اللفظ" هو