للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَصْلٌ:

[الْمَخْرَجُ الثَّانِي وَيَشْتَمِلُ عَلَى الْقَوْلِ فِي طَلَاقِ الْغَضْبَانِ]

الْمَخْرَجُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَحْلِفَ فِي حَالِ غَضَبٍ شَدِيدٍ قَدْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَمَالِ قَصْدِهِ وَتَصَوُّرِهِ؛ فَهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَلَا عِتْقُهُ، وَلَا وَقْفُهُ، وَلَوْ بَدَرَتْ مِنْهُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ فِي هَذَا الْحَالِ لَمْ يَكْفُرْ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْغَلْقِ وَالْإِغْلَاقِ الَّذِي مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِيهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.

قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِ زَادِ الْمُسَافِرِ لَهُ: بَابٌ فِي الْإِغْلَاقِ فِي الطَّلَاقِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: وَحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا طَلَاقَ، وَلَا عَتَاقَ فِي إغْلَاقٍ» يَعْنِي الْغَضَبَ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَقِبَ ذِكْرِهِ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: وَالْإِغْلَاقُ أَظُنُّهُ الْغَضَبَ.

وَقَسَّمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ الْغَضَبَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُزِيلُ الْعَقْلَ كَالسُّكْرِ، فَهَذَا لَا يَقَعُ مَعَهُ طَلَاقٌ بِلَا رَيْبٍ.

وَقِسْمٌ يَكُونُ فِي مَبَادِئِهِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَصَوُّرِ مَا يَقُولُ وَقَصْدُهُ، فَهَذَا يَقَعُ مَعَهُ الطَّلَاقُ.

وَقِسْمٌ يَشْتَدُّ بِصَاحِبِهِ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ زَوَالَ عَقْلِهِ، بَلْ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّثَبُّتِ وَالتَّرَوِّي وَيُخْرِجُهُ عَنْ حَالِ اعْتِدَالِهِ، فَهَذَا مَحَلُّ اجْتِهَادٍ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْغَلْقَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ انْغَلَقَ عَلَيْهِ طَرِيقُ قَصْدِهِ وَتَصَوُّرِهِ كَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُبَرْسَمِ وَالْمُكْرَهِ وَالْغَضْبَانِ، فَحَالُ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ حَالُ إغْلَاقٍ، وَالطَّلَاقُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ وَطَرٍ؛ فَيَكُونُ عَنْ قَصْدِ الْمُطَلِّقِ وَتَصَوُّرٍ لِمَا يَقْصِدُهُ، فَإِنْ تَخَلَّفَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ، وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ ": أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا " ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَقُولَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، أَوْ خَرَجْت مِنْ بَيْتِي بِغَيْرِ إذْنِي، ثُمَّ بَدَا لِي فَتَرَكْت الْيَمِينَ، وَلَمْ أُرِدْ التَّنْجِيزَ فِي الْحَالِ، إنَّهُ لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ التَّنْجِيزَ، وَلَمْ يُتِمَّ الْيَمِينَ.

وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ " أَنْتِ طَاهِرٌ " فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ " أَنْتِ طَالِقٌ " لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، لَا فِي الْحُكْمِ الظَّاهِرِ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالثَّانِيَةِ لَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَيَقَعُ فِي الْحُكْمِ، وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ عَنْ عُمَارَةَ سُئِلَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ غَلِطَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُؤْمِنِ غَلَطٌ، ثنا وَكِيعٌ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ عَامِرٍ فِي رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ فَغَلِطَ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَيْسَ بِشَيْءٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>