يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، قُلْت: أَلَيْسَ كُنْت مَرَّةً تَخَافُ أَنْ يَلْزَمَهُ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ أَكْثَرُ مَا عِنْدِي فِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُهُ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ، قُلْت: السُّكْرُ شَيْءٌ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُ، قَالَ: قَدْ يَشْرَبُ رَجُلٌ الْبَنْجَ أَوْ الدَّوَاءَ فَيَذْهَبُ عَقْلُهُ، قُلْت: فَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، وَإِقْرَارُهُ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: أَرْفَعُ شَيْءٍ فِيهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ " لَيْسَ لِمَجْنُونٍ، وَلَا سَكْرَانَ طَلَاقٌ ".
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: وَاَلَّذِي لَا يَأْمُرُ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّمَا أَتَى خَصْلَةً وَاحِدَةً، وَاَلَّذِي يَأْمُرُ بِالطَّلَاقِ قَدْ أَتَى خَصْلَتَيْنِ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ، وَأَحَلَّهَا لِغَيْرِهِ، فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا، وَأَنَا اتَّقِي جَمِيعَهَا.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ نُفُوذِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ.
وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ الْمُزَنِيّ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ مِمَّنْ اتَّبَعَهُمَا.
وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيُّ فِي النِّهَايَةِ، وَالشَّافِعِيُّ نَصَّ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ، وَنَصَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ، فَمِنْ أَتْبَاعِهِ مَنْ نَقَلَ عَنْ الظِّهَارِ قَوْلًا إلَى الطَّلَاقِ، وَجَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَّرَ حُكْمَ النَّصَّيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بِطَائِلٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِأَقْوَالِهِ مِنْ طَلَاقٍ، وَلَا عَتَاقٍ، وَلَا بَيْعٍ، وَلَا هِبَةٍ، وَلَا وَقْفٍ، وَلَا إسْلَامٍ، وَلَا رِدَّةٍ، وَلَا إقْرَارٍ؛ لِبِضْعَةِ عَشَرَ دَلِيلًا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهَا، وَيَكْفِي مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاسْتِنْكَاهِ مَاعِزٍ لَمَّا أَقَرَّ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَدَمُ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمْزَةَ بِتَجْدِيدِ إسْلَامِهِ لَمَّا قَالَ فِي سُكْرِهِ " أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِآبَائِي " وَفَتْوَى عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يُخَالِفْهُمَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الْمَحْضُ عَلَى زَائِلِ الْعَقْلِ بِدَوَاءٍ أَوْ بَنْجٍ أَوْ مُسْكِرٍ هُوَ فِيهِ مَعْذُورٌ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ السَّكْرَانَ لَا قَصْدَ لَهُ؛ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ مِنْ اللَّاغِي، وَمَنْ جَرَى اللَّفْظُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ، وَقَالُوا: لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمَعْتُوهِ، وَهُوَ مَنْ كَانَ قَلِيلَ الْفَهْمِ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ فَاسِدَ التَّدْبِيرِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ، وَلَا يَشْتُمُ كَمَا يَفْعَلُ الْمَجْنُونُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute