فَصْلٌ:
[بَيَانُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ]
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَاَلَّذِينَ قَالُوا: " هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ " قَالُوا: هِيَ بَيْعٌ مَعْدُومٌ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ حِينَ الْعَقْدِ، ثُمَّ لَمَّا رَأَوْا الْكِتَابَ قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ إجَارَةِ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: ٦] قَالُوا: إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: كَوْنُهَا إجَارَةً.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهَذِهِ عَقْدٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ إجَارَةٍ جَائِزَةٍ إلَّا هَذِهِ، وَقَالُوا: هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ إذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ يُشَابِهُهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَيُقَالُ: هَذَا خِلَافُ قِيَاسِ ذَلِكَ النَّصِّ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ ذِكْرُ فَسَادِ إجَارَةٍ شَبَهِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ، وَمَنْشَأُ وَهْمِهِمْ ظَنُّهُمْ أَنَّ مَوْرِدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَكُونُ إلَّا مَنَافِعَ هِيَ أَعْرَاضٌ قَائِمَةٌ بِغَيْرِهَا، لَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ افْتَرَقَ هَؤُلَاءِ فِرْقَتَيْنِ: فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّمَا احْتَمَلْنَاهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِوُرُودِ النَّصِّ؛ فَلَا نَتَعَدَّى مَحَلَّهُ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ نُخْرِجُهَا عَلَى مَا يُوَافِقُ الْقِيَاسَ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَمْرًا غَيْرَ اللَّبَنِ، بَلْ هُوَ إلْقَامُ الصَّبِيِّ الثَّدْيَ وَوَضْعُهُ فِي حِجْرِ الْمُرْضِعَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ مُقَدِّمَاتُ الرَّضَاعِ، وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ تَبَعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالْعَقْدِ، ثُمَّ طَرَدُوا ذَلِكَ فِي مِثْلِ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْعُيُونِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَقَالُوا: يَدْخُلُ ضِمْنًا وَتَبَعًا، فَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى نَفْسِ الْعَيْنِ وَالْبِئْرِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ وَالْبُسْتَانِ قَالُوا: إنَّمَا وَرَدَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مُجَرَّدِ إدْلَاءِ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ وَإِخْرَاجِهِ، وَعَلَى مُجَرَّدِ إجْرَاءِ الْعَيْنِ فِي أَرْضِهِ، مِمَّا هُوَ قَلْبُ الْحَقَائِقِ، وَجَعْلُ الْمَقْصُودِ وَسِيلَةً وَالْوَسِيلَةِ مَقْصُودَةً؛ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ إنَّمَا هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَإِلَّا فَهِيَ بِمُجَرَّدِهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً، وَلَا مَعْقُودًا عَلَيْهَا، وَلَا قِيمَةَ لَهَا أَصْلًا، وَإِنَّمَا هِيَ كَفَتْحِ الْبَابِ وَكَقَوَدِ الدَّابَّةِ لِمَنْ اكْتَرَى دَارًا أَوْ دَابَّةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute