عقلها بتنكير العرش، واختبر أمر رجليها بالصرح لتكشف عن ساقيها، وتنكيره بأن يزيد فيه وينقص منه. والقصة في ذلك مشهورة في كتب التفسير، ولما أسلمت وأذعنت وأقرت على نفسها بالظلم، روي أنه تزوجها وردها إلى ملكها باليمن، وكان يأتيها على الريح في كل شهر مرة، فولدت له غلاما فسماه داود ومات في حياته. وقيل: إنه جعل يعني لما زاد في العرش ونقص منه، مكان الجوهر الأخضر أحمر ومكان الأحمر أخضر، فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو. وقيل: عرفته. ولكنها شبهت عليهم، كما شبهوا عليها، قاله مقاتل.
وقال عكرمة: كانت بلقيس حكيمة لم تقل نعم خوفا من أن تكذب، ولم تقل لا خوفا من التنكيت عليها، بل قالت: كأنه هو، فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر. وقيل: إنه اشتبه عليها أمر العرش، لأنها لما أرادت الشخوص إلى سليمان، دعت قومها وقالت لهم: والله ما هذا ملك، وما لنا به من طاقة، ثم أرسلت إلى سليمان: إني قادمة عليك بملوك قومي، حتى أنظر ما أمرك، وما الذي تدعو إليه من دينك. ثم أمرت بعرشها وكان من ذهب وفضة، مرصعا بالياقوت والجوهر، فجعلته في جوف سبعة أبيات، عليه سبعة أغلاق كما تقدم، ووكلت به حراسا يحفظونه، ثم قالت لمن خلفته على سلطانها: احتفظ بما قبلك لا يخلص إليه أحد، ولا ترينه أحدا حتى آتيك. وشخصت إلى سليمان باثني عشر ألف قيل من أقيال اليمن، تحت كل قيل ألوف كثيرة، فلما جاءت، قيل: أهكذا عرشك؟ فاشتبه عليها أمر العرش، فقالت: كأنه هو. ثم قيل لها: ادخلي الصرح.
قيل: إنه قصر من زجاج كأنه الماء بياضا، وقيل: الصرح الصحن في الدار، وأجرى تحته الماء، وألقى فيه شيئا كثيرا من دواب البحر، كالسمك والضفادع وغيرها، ثم وضع سرير سليمان في صدره، فكان الصرح إذا رآه أحد حسبه لجة ماء. قيل: إنه إنما بنى الصرح، لأنه أراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها، من غير أن يسألها كشفها. وقيل: أراد أن يختبر فهمها كما فعلت هي بالوصفاء والوصائف، وقد تقدم ذكر ذلك في باب الدال المهملة، في الدود. فجلس سليمان عليه السلام على السرير، ودعا بلقيس، فلما جاءت، قيل لها: ادخلي الصرح، فلما رأته حسبته لجة، وهي معظم الماء، وكشفت عن ساقيها لتخوضها إلى سليمان، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما إلا شعر الساقين، فلما رأى سليمان ذلك، صرف بصره عنها وناداها: إنه صرح ممرد من قوارير وليس بماء، ثم دعاها إلى الإسلام. وكانت قد رأت حال العرش والصرح. فأجابت.
وقيل: إنها لما بلغت الصرح وحسبته لجة، قالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرقني، وكان القتل أهون علي من هذا، فقولها ظلمت نفسي يعني بذلك الظن.
وقيل: إنه عليه السلام لما أراد أن يتزوجها كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها، فسأل الإنس ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى. قالت: لا تمسني حديدة قط. وكره سليمان الموسى، وقال: إنها تقطع ساقيها، فسأل الجن، فقالوا: لا ندري، فسأل الشياطين، فقالوا: إنا نحتال لك حتى يكونا كالفضة البيضاء، فاتخذوا النورة والحمام ومن يومئذ ظهرت النورة والحمامات، ولم تكن قبل ذلك.
فلما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا، وأقرها على ملكها، وأمر الجن فابتنوا لها بأرض