"هبطت إليك من المحل الأرفع" إلى "الإنسان ملك هوى، فما يزال يذكر السماء". منذ ابن سينا إلى لامرتين:
أم شاقك الذكر القديم ... ذكر الحمى قبل السديم
فوقفت في سجن الأديم ... نحو الحمى تتلفتين
أأضعت فكرا في الفضاء ... فتبعته فوق الهواء
فنأى وغلغل في العلاء ... فرجعت ثكلى تندبين
أسلكت في طرق الخيال ... دربا يقود إلى المحال
فحطمت رحلك عند آل ... يمتص ري الصادرين
فروض لا شك من تصورات العقل، ومع ذلك تنجو بها الصور من البرود. فالنفس تطل من سجنها نحو الحمى "متلفتة" في لهفة، وهي تحلق في الهواء، كمن يبحث عن مفقود لا يجده، فتعود حزينة ""ثكلى تندب" مسرفة مبتذلة" وهي تسلك في عالم الخيال "طرق لفظة نثرية" دربا يقود إلى المحال، ثم تحط رحالها عند سراب "يمتص ري الصادرين"، وهذه صورة بالغة الجمال والقوة، فالسراب الذي وصلت إليه لم يكتف بأن أسفر عن خلاء، بل سلبها ما تملك وامتص ريها، فصدرت عنه أشد ظمأ منها عند الورود:
فنسيت قصدك والطلاب ... ووقفت يذهلك السراب
وهرقت فضلات الوطاب ... طمعا بماء تأملين
استقصاء للصورة واستمرار فيها، وهو مذهب قديم عند كبار الشعراء؛ إذ نراه من أهم خصائص شعر هوميروس الذي يشبه البشر بأوراق الخريف في إحدى أغانيه، فيرى في تساقطها ما يحكي فناءنا، ثم يتابع التشبيه، فيذكر نهوض الأجيال بعضها في أعقاب بعض، كما تخلف الأوراق غيرها.. وهو واضح عند بعض شعرائنا كذي الرمة الذي يصف إشعال النار، فيستقصي المراحل ويتابع الصورة، وكابن الرومي الذي يضرب المثل بوصفه لصانع الرقاقة. ومع ذلك فثمة مفارقات، فوصف ذي الرمة لإشعال النار، ووصف ابن الرومي لدحو الرقاقة حرص على التفاصيل التي تتمم اللوحة وتكسبها غنى الواقع، وأما استمرار هوميروس أو استمرار عريضة الآن فهو في خدمة الفكرة أو الإحساس، وهذا أسلوب في الكتابة له جماله: