للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيه مبالغة تخرجنا عن الألفة، ونحن لا نكاد نتصور كيف يصف نوح النفس إلى أن يكون "بوق النشور ليوم الدين"، ولا نرى ضرورة لهذا العنف في التعبير، ولكن هذا قليل.

يا نفس ما لك في اضطراب ... كفريسة بين الذئاب

هلا رجعت إلى الصواب ... وبدلت ريبك باليقين؟

أحمامة بين الرياح ... قد ساقها القدر المتاح

فابتل بالمطر الجناح ... يا نفس ما لك ترجفين

أسئلة متدفقة توحي بما في نفس الشاعر من حيرة، وصور جميلة دالة. النفس المضطربة كفريسة بين الذئاب، النفس التي ترجف كحمامة بين الرياح قد بل المطر جناحها. وفي اختيار الألفاظ ذوق دقيق ودليل واضح على أن الشاعر يرى ما يقول. وهل أدل على تلك الرؤية الشعرية من أن نراه بعد أن يصف حالات النفس يلتفت إليها فجأة فيخاطبها وكأنها قد تجسمت أمامه فريسة تضطرب بين الذئاب أو حمامة بللها المطر وسط الرياح:

أوما لحزنك من براح ... حتى ولو أزف الصباح

يا ليت سرك لي مباح ... لأعي صدى ما قد تعين

والشاعر لا يحس في وضوح بغير حزنه، وأما السر في ذلك فتراه يتساءل عنه وهو بعد لا يعلم أتعرفه نفسه أم لا، أولا تراه يقول: "لأعي صدى ما قد تعين"؟ فهي قد تعي شيئا وهو -إذا أباحت له سرها- لن يتسطيع أن يعي منه غير الصدى:

أسبتك أرواح القتام ... فأرتك ما خلف اللثام

فطمعت فيما لا يرام ... يا نفس كم ذا تطمحين؟!!

وهنا ندخل في سلسلة من الفروض الشعرية، يريد بها الشاعر أن يحاول الفهم، وهو في الحق يكاد يكون يائسا منه، وإنما هو إحساس نفس قلقة تطمع فيما لا يرام، وكأني بها قد استشرفت يوما أسرار الوجود. ثم كم في التفاته "يا نفس كم ذا تطمحين؟!! " من نفاذ يصل إلى القلوب:

أصعدت في ركب النزوع ... حتى وصلت إلى الربوع

فأتاك أمر بالرجوع ... أعلى هبوطك تأسفين؟!

وتلك نغمات أفلاطون الشعرية الجميلة يوم حدثنا عن هبوط النفس من عالم المثل الذي لن تستطيع أن تغالب الحنين إليه. ولكم جرت بذلك أنفاس الشعراء منذ

<<  <   >  >>