تحدثنا فيما سبق عن مصادر النشر مباشرة وغير مباشرة، واليوم نخطو إلى المرحلة التالية وهي قراءة النص، ثم نختم المقال بالحديث عن الروح العلمية التي يجب أن تسود فيما ننشر أو نؤلف.
قراءة النص:
لا شك أن الهدف الأخير لكل ناشر هو أن يقرأ النص قراءة تمكن القارئ من فهمه. ومن المعلوم أن الواجب العلمي يقضي بألا يتصرف الناشر في النص على نحو يحيله عن أصله ويجعله مماشيا لما قد يظنه هو فهما صحيحا، ومع ذلك فالعلماء لا يجمعون على وجوب احترام النص احتراما مقدسا، إلا في حالة واحدة هي حالة وصوله إلينا بخط المؤلف؛ إذ إنه لا يجوز لنا عندئذ أن نتناول النص بأي إصلاح؛ لأن الأخطاء ذاتها تكون عندئذ عظيمة الدلالة على درجة ثقافة المؤلف في اللغة أو في موضوع الكتاب. وأما فيما عدا هذه الحالة فنحن إزاء نسخ يتحمل ناسخوها عادة جزءا كبيرا مما فيها من أخطاء، ويكون من واجب الناشر حتى يكون عمله نشرا لا نسخا جديدا، أن يصلح من أخطاء هؤلاء النساخ، وسبيله إلى ذلك ألا يكتفي كما فعل الدكتور سوريال بالاعتماد على نسخة أو مجموعة من النسخ مهملا إلى حد كبير ما عداها، بل يقابل بين كل المخطوطات التي لديه، بعد أن يقيم تسلسلها كما وضحنا في المقال السابق، وبعد أن يحصي القراءات المختلفة لكل جملة أو جزء من الجملة، يكون من واجبه أن يفاضل بين تلك القراءات.
وهنا لا بد أن نشير إلى نوعين من القراءات Variantes وهما اللذان يسميها العلماء بالقراءة السهلة "Lection facillis باللاتينية" والقراءة الصعبة Lection defficillis ويجب على الناشر ألا يسارع إلى قبول القراءة السهلة، فكثيرا ما تكون من تحريف الناسخ الذي عجز عن فهم القراءة السهلة، فكثيرا ما تكون من تحريف الناسخ الذي عجز عن فهم ما ينسخ فأحاله إلى شيء يفهمه هو وكل هذا على فرض وجود قراءتين كلتاهما فهمها ممكن، فإذا استعصى الفهم وجب على الناشر أن نلجأ إلى ما يسميه العلماء بالتخمينات Conjectuires وله عندئذ أن يثبت تخميناته في المتن بين قوسين أو أن يودعها في الهوامش. ونحن نكرر أن هذه التخمينات لا نلجأ إليها إلا بعد استقصاء كل القراءات والعجز عن فهمها كلها، وكثيرا ما لجأ العلماء إلى تخمينات أثبتت صحتها مخطوطات اكتشفت بعد النشر. وحق التخمين بل واجبه لم نرَ أحدا من ناشري النصوص، وبخاصة النصوص القديمة -كالنصوص اليونانية والعربية- يماري فيه؛ إذ لا مفر للناشر من أن يعطينا -كما قلنا- نصا يمكن فهمه.
هذه هي الأصول العلمية للنشر كما عرفناها من أساتذتنا، وأما ما يزعمه الدكتور سوريال من نشره للنص بأخطائه "محافظة على أسلوبه الأثري" فهذا شيء لم نسمع به. والذي نعلمه أن التماثيل الأثرية ذاتها لا يحجم علماء الآثار