للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهكذا تأتي الصورة الجميلة الدالة، ينتزعها الشاعر من معطيات حواسه المباشرة، فتكسو الفكرة بأغشية الشعر، وتنشر أمامنا مناظر يدركها الخيال؛ بل تهتز لها النفس.

وتنتقل إلى فرض آخر يودعه الشاعر صورًا جديدة:

أعشقت مثلك في السماء ... أختا تحن إلى اللقاء

فجلست في سجن الرجاء ... نحو الأعالي تنظرين

وهنا نلمس الإغراب ونلمس المعاني البعيدة والصورة المقتسرة "فالجلوس في سجن الرجاء" ليس من الشعر القريب الحبيب إلى النفس، ولكن لنعد عن ذلك إلى ما يليه:

لوحت باليد والرداء ... لتراك لكن لا رجاء

لم تدر أنك في كساء ... قد حيك من ماء وطين

وننظر فإذا بالصورة الجميلة المألوفة "لوحت باليد والرداء" تتجسم أمام أبصارنا، وبذلك ترفع من سقطة البيت السابق، وأما الكساء الذي يحاك من ماء وطين فصورة بعيدة، وأصدق الصور ما كانت ممكنة في الواقع إن لم تنتزع منه فعلا:

أتحول دونكما حياة ... لو كان يبلوها الإله

لبكى على بشر براه ... رحما يصارعها الجنين

وهذا استمرار لفكرة النفس السجينة التي لو بلا الله أمرها لأخذته بأصحابها الشفقة فبكى. النفس في الجسم تصارعه كالجنين في الرحم، معنى بعيد وصورة بعيدة وإن لم تخلُ من قوة.

يا نفس أنت لك الخلود ... ومصير جسمي للحود

سيعيث عيثك فيه دود ... فعلامَ لا تترفقين؟

والآن تنتهي الأفكار الفلسفية وما جرَّت الشاعر إليه من صور بعضها قوي موفق وبعضها مقتسر بعيد؛ وذلك لما في طبيعة شعر الفكرة من مجازفة خطرة لم يسلم منها أحد من الشعراء فيما أعتقد، حتى ولو كان الشاعر شيلي أو فليري.

ولكننا لا نكاد نصل إلى الإحساس الخالص والصور التي تصاغ للعبارة عنه حتى نرى في نسيب عريضة شاعرًا كبيرًا.

يا نفس هل لك في النضال ... فالجسم أعياه الوصال

حملته ثقل الجبال ... ورذلته لا تحفلين

<<  <   >  >>