وأخيرًا أخذت الأساطير تشق سبيلها إلينا حتى رأينا كاتبا كالدكتور طه حسين يكتب في روايته "أديب": "لقد ماتت قناتنا أيها الصديق! مات ودفن فيها أو صرف عنها ذلك الإله الشاب من آلهة الأساطير الذي كان ينطلق فيها فرحا هادئا وادعا مستبشرا، يرسل البشر من حوله، جميلا ينثر الجمال عن جانبيه، مات هذا الإله الشاب فدفن في مجراه، أو طرد هذا الإله ورد عن مجراه، وفني في الإبراهيمية فأصبح ماء من الماء، وجرى لا يتميز عن غيره، لا يعرفه أحد ولا يعرف هو أحد، لا يثير في نفوس الناس حزنا ولا فرحا، ولا تجري ألسنتهم بالحديث عنه، نسيه الناس ونسي هو الناس، بل نسي نفسه أيضا، إنك لتعرف أن آلهة الأساطير لا حياة لهم إلا إذا أقيمت لهم المعابد وأقاموا هم المعابد، فإذا هدمت معابدهم فقد ماتوا أو طردوا من الأرض طردا. فقد هدم معبد هذا الإله الشاب وماتت القناة، فمات هو أو نفي من الأرض وأصبح حديثا كغيره من الآلهة الذين أصبحوا أحاديث".
ولو أنك بحثت عما خلف هذه الفقرة الطويلة من معنى لم تجد غير خبر يلقي به مواطن إلى مواطنه، فالأديب الذي نشأ في نفس القرية التي نشأ فيها طه حسين قد عاد إلى بلدته فوجد أن ترعتهم قد ردمت بعد أن كانت تنساب من الإبراهيمية إلى القرية، وحزن الأديب لزوالها أو قل حزن طه حسين الذي دل في موضع مما كتب على إلفه للأمكنة وإحساسه بها إحساسا مرهفا، واحتال الكاتب على شفاء نفسه مما تجد، فلجأ إلى الأساطير اليونانية التي خلعت على الأشياء صفات الإنسان أو صفات الآلهة. والأمر بعد سيان؛ إذ إن آلهة اليونان قد خلقهم هذا الشعب على شاكلة البشر. وعلى نحو ما جعل هوميروس من نهر الاسكامندر في الإلياذة إلها يصارع البطل "أخيل"، ترى طه حسين يجعل من قناة بلدتهم إلها شابا سرعان ما ينسى وينسينا أنه أسطورة أو إله خرافة، وإذا بالإله شاب إنسي يموت ويدفن في القناة أو على الأصح يفنى بفنائها، وإذا بالكاتب يمزج بين حياة هذا الشاب وحياة من حوله، وينفث فيه فيضا من العاطفة قد بلغ من