ذلك سبب لتسمية الخليل لهما بهذين الاسمين، ونضيف أننا لم نعثر بطي في القصيدة التي ندرسها الآن، وإذا صحت ملاحظتنا وضح السر في إيحاء هذا الوزن بالاطراد، وكل اطراد يلائم الإضناء والحيرة اللذين يزيدهما وضوحا طول المقطوعة، وهي لا تقف عند سكون القافلة إلا لتعود من جديد، كأمواج البحر التي تتحطم تباعا مرتدة عند صخر الشاطئ، وهذا يماشي بناء القصيدة المكونة من فروض متتابعة وموجات نفسية متجددة. وهذه وتلك يطول نفسها ويطرد، ثم تفنى ليعود غيرها إلى الظهور. توفيق رائع إلى الملائمة بين موسيقى الشعر وموسيقى الإحساس، بين الصياغة ونفس الشاعر ثم إن الاطراد هنا لا ينتهي إلى الفقر والإملال كما يحدث أحيانًا، فقد عرف الشاعر كيف يتجنبه بالحركة الشعرية، ثم بتقسيمه لتفاعيله الثمانية إلى أربع وحدات، ثلاث منها تفصل وتجمع بينها القوافي، ثم يأتي سكون القافلة فيفصل ويجمع بين وحدات القصيدة كلها.
وننظر في اللفظ فتعرض لنا مشكلة طالما أثرناها في مصر هي أخذنا على شعراء المهجر ما نسميه ضعف العربية في الأسلوب، وهذه تهمة يجب أن نقلع عنها؛ لأنني كلما أمعنت النظر في ألفاظهم وتراكيبهم لم أجد لها مثيلا في شعرنا الحديث، من حيث الدقة والقدرة على إثارة الإحساس، نعم قد يخطئون في النحو أو الصرف، ولكن هذه في نظري أشياء نادرة لها نظائرها عند أكبر الكُتَّاب، وإلى اليوم لا يزال الفرنسيون يضربون المثل بفولتير في الخطأ في الإملاء، وإنما يعيب الأسلوب عدم التحديد أو العجز عن الإيحاء، وتلك عيوب لا وجود لها في شعرهم، أما استخدامهم للألفاظ المألوفة فلست أرى فيه موضع ضعف بل قوة؛ وذلك لأن الألفاظ المألوفة -ولا أقول المبتذلة- هي التي تستطيع في الغالب أن تستنفد إحساس الشاعر، كما أنها أقدر من الألفاظ المهجورة على دفع مشاعرنا إلى التداعي، وقد كثر استعمالنا لها في الحياة، فتحددت معانيها، وتلونت بلون نفوسنا، فحملت شحنة عاطفية، وهذه صفات من أولى خصائص الأسلوب الشعري، بل أسلوب الأدب بوجه عام، وها نحن نسمع عريضة يقول:"أفما دهاهم ما دهاك؟ " فندرك "الداهية" التي لها وقع متميز في نفوسنا:
أطلقت نوحك للظلام ... إياك يسمعك الأنام
فيظن زفرتك النيام ... بوق النشور ليوم دين
وهذا بلا ريب إسراف في الصور، لا ننكر أنه قلق، وأن نغماته أقوى من الهمس،