للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قد نام أرباب الغرام ... وتدثروا لحف السلام

وأبيت يا نفس المنام ... أفأنت وحدك تشعرين!

الليل مر على سواك ... أفما دهاهم ما دهاك!

فلمَ التمرد والعراك؟ ... ما سور جسمي بالمتين

وبذا نسير إلى قلب الفكرة الفلسفية التي ترى الجسم سجنا للنفس: فكرة إغريقية قديمة، ومع هذا تكسبها الحركة خفة الشعر، "الليل مر على سواك" تقرير يعقبه "أفما دهاهم ما دهاك؟ " استفهام لا نستطيع أن ندرك معناه، وإن كان في السؤال الآخر: "فلم التمرد والعراك؟ " ما يشعر بأنه إنكاري، وأخيرا تأتي القافلة "ما سور جسمي بالمتين" منفية مؤكدة في قمة يقف عندها النفس ويطمئن السيل الموسيقي، وهكذا بالمرور من الخبر إلى الإنشاء ثم العودة إلى الخبر، قد استطاع الشاعر أن يخلق تلك الحركة التي تحاكي ما بنفسه من اضطراب.

وتنصت إلى الموسيقى، فإذا هي أجمل ما في القصيدة، وفي الحق أن شعراء المهجر قد جددوا موسيقى الشعر العربي تجديدا يستحق أن نطيل فيه النظر، نحن الآن إزاء بحر تقليدي "مجزوء الكامل"، ولكن انظر كيف استخدمه الشاعر. فالوحدة لم تعد البيت بل المقطوعة "قد نام ... تشعرين"، وفي كل مقطوعة نجد أربعة أشطر، الثلاثة الأول يقفي بعضها البعض، وأما الشطر الرابع الذي نسميه "القافلة" فيقفي القوافل الأخرى، وعلى هذا النحو تطرد القصيدة، كل وحدة تتكون إذن من ثماني تفاعيل تسيل إلى أن توقفها القافلة النونية الساكنة، ثم تعود فتستأنف سيرها في المقطوعة التالية إلى أن تقف. وكان من دقة إحساس الشاعر أن وقع على الكامل المتساوي التفاعيل؛ وذلك لأن الإضمار "إسكان الثاني المتحرك"، ليس في الحقيقة زحافا، وهو لا ينقص شيئا من كم التفعيلة، وإنما يستبدل مقطعين قصيرين "متفاعلن" بمقطع واحد مغلق "متفاعلن" يبلغ في الكم مبلغ المقطعين الآخرين، وبهذا لا يتغير في التفعيلة المزحفة غير الإيقاع بسبب التسكين، وأما طول التفعيلة فيظل ثابتا. وإذا ذكرنا أن الإضمار هو الزحاف الكثير الدخول على الكامل. وأن الطي "حذف الرابع الساكن" لا يكاد يجتمع إلى الإضمار إلا في التفعيلة الأولى من الشطر الثاني. وأنه في تلك الحالة يغلب أن يعوضه الترفيل "زيادة مقطع في تفعيلة القافية" إذا ذكرنا كل ذلك أدركنا أن هذا البحر من البحور المتساوية التفاعيل على نحو مطرد. والكامل والوافر هما البحران الوحيدان اللذان تنطبق عليهما تلك الصفة، ولربما كان في

<<  <   >  >>