كان يطلب من رسول الله عليه الصلاة والسلام دينا، فليحضر، فمازلت أبيع وأقضي، وأعرض حتى لم يبق على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دين فى الأرض حتى فضل عندى أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد، وقد ذهب عامة النهار، فإذا رسول الله عليه الصلاة والسلام قاعد فى المسجد واحده، فسلمت عليه، فقال لى: ما فعل الله قبلك؟ قلت: لقد قضى الله كل شيء كان على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلم يبق شيء. قال: فضل شئ قلت نعم ديناران، قال: انظر أن تريحنى منهما، فلست بداخل على أحد من أهلى حتى تريحنى منهما فلم يأتنا أحد، وظل فى المسجد حتى اليوم التالي، حتى إذا كان اخر النهار جاء راكبان، فانطلقت بهما فكسوتهما، وأطعمتهما، حتى إذا صلى العتمة دعاني، فقال: ما فعل الله تعالى قبلك؟. قلت: قد أراحك الله تعالى منهما- فكبر وحمد الله تعالى شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته» «١» .
١٥٤- سقنا هذا الخبر مع طوله، لأنه يدل أولا: على زهادة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم المطلقة التى لا يدخر فيها فى بيته. ويدل ثانيا: على أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يحمل أعباء العائلين من صحابته، يعينهم حتى يبعد عنهم ذل الحاجة، ويحميهم من رق الدين، ويدل ثالثا على أنه إذا لم يستطع أن يعطى أمرهم بأن يستدينوا عليه.
ويروى فى ذلك الترمذى بسنده أن رجلا جاء إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله أن يعطيه. فقال: ما عندي ما أعطيك، ولكن اذهب فابتع علي شيئا، فإذا جاءني شيء قضيته، فقال عمر بن الخطاب، يا رسول الله ما كلفك الله تعالي ما لا تقدر عليه، فكره النبي عليه الصلاة والسلام قول عمر. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلي الله عليه وسلم وعرف التبسم في وجهه لقول الأنصارى.
ولقد كان ما يجرى علي النبي عليه الصلاة والسلام يجرى على نسائه، فيتحملن راضيات فى أكثر الأحيان.
ويروي أن امرأة من الأنصار دخلت علي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فرأت علي فراش رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم عباءة فانطلقت لتبعث إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت علي فرأت فراشك، فذهبت، وبعثت بهذا، فقال: رديه، فلم أرده، وأعجبني أن يكون في بيتي، حتي قال ذلك ثلاث مرات قالت فقال: رديه يا عائشة فو الله لو شئت لأجري الله معى جبال الذهب والفضة.
(١) تاريخ الحافظ ابن كثير نقلا عن الشمائل لأبى داود ص ٥٦ ج ٦.