ولكن يلاحظ أنه لم يحرم على نفسه صنفا من فاكهة، أو طعاما من أطعمة أهل الترفه والنعيم، بل يقبل كل الحلال، ولكنه يكتفى بالأدنى دائما فاطما النفس عن أهوائها وملاذها، تقوية لها، ولتكون الإرادة الحاكمة بسلطان العقل هى المسيطرة، ولا تكون النفس أمة ذلولا للأهواء والشهوات بل تكون سيدة مطاعة، حاكمة عليها غير محكومة بها.
١٥٣- ومع هذه الزهادة التى التزمها، وأخذ نفسه بها ما كان يدعو الناس إليها، لأنهم لا يطيقونها، ولأنه الذى أمر المؤمنين بألا يفعلوا إلا ما يطيقون غير مسرفين على أنفسهم، إذ يقول:«إن هذا الدين لن يشاده أحد إلا غلبه ولكن سددوا وقاربوا» .. فهو عليه الصلاة والسلام يأخذ نفسه بزهد لا يأخذ به غيره لكيلا يرمض فقير بفقر، ولا ذو قل بقله.
ولقد روى أبو داود فى سننه أن سائلا سأل بلالا مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائلا: حدثنى كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: ما كان له شيء من ذلك إلا أنا الذى كنت ألى ذلك منه منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفي، فكان إذا أتاه المسلم فراه عائلا يأمرنى فأنطلق، فأشترى له البردة، والشيء فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضنى رجل من المشركين، فقال لى:«إن عندى سعة، فلا تقترض إلا منى ففعلت، فلما كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك فى عصابة من التجار، فلما رانى قال لى «يا حبشى» قلت: يا لبيه، فتجهمني، وقال قولا عظيما غليظا، وقال: أتدرى كم بينك وبين الشهر! قلت: قريب. قال إن بينك وبينه أربع ليال، فاخذك بالذى لى عليك، فإنى لم أعطك الذى أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، وإنما أعطيتك لتصير لى عبدا، فأذرك ترعى فى الغنم كما كنت قبل ذلك. قال بلال: فأخذنى فى نفسى ما يأخذ أنفس الناس، فانطلقت، فناديت بالصلاة حتى إذا صليت العتمة، ورجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لى فقلت يا رسول الله بأبى أنت وأمى، إن المشرك الذى ذكرت لك أنى كنت أتدين منه قال كذا وكذا، وليس ما يقضى عنى ولا عندى وهو فاضحي، فأذن لى أن اتى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يقضى به عني، فخرجت حتى أتيت منزلى، فجعلت سيفى وحرابى ورمحى ونعلى عند رأسى، فاستقبلت وجهى الأفق، فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت رجلا نمت حتى اتسق عمود الصبح الأول. فأردت أن أنطلق، فإذا إنسان يدعوني، يا بلال أجب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فانطلقت حتى اتيه، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن، فأتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام فاستأذنت، فقال لى رسول الله: أبشر فقد جاءك الله بقضاء دينك فحمدت الله وقال: ألم تمر على الركائب المناخات الأربع قلت: بلي، قال:
فإن لك رقابهن وما عليهن. فإذا عليها كسوة وطعام أهداهن إليه صاحب فدك، قال: فاقبضهن إليك، ثم اقض دينك، ففعلت فحططت أحمالهن، ثم علقتهن ثم عمدت إلى تأدية صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرجت إلى البقيع، فجعلت أصبعى فى أذنى فقلت: من