الحمد لله، أحمده تعالى حمداً يستدعي مزيد الإنعام، وأشكره شكراً يرقى بقائله إلى أسمى مقام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، مَنَّ على مَن شاء مِن عباده بحسن الصيام والقيام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأنام صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم في التبجيل والإكرام، وسلَّم تسليماً كثيراً على الدوام.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، فإنها عروة ليس لها انفصام، وجَذوة تضيء القلوب والأفهام، وهي خير زاد يبلِّغ إلى دار السلام، مَن تحلى بها بلَغ أشرف المراتب، وتحقق له أعلى المطالب، وحصل على مأمول العواقب، وكُفِي من شرور النوائب.
أيها المسلمون: المستقرئ لتاريخ الأمم والمتأمل في سجل الحضارات يُدرك أن كلاً منها يعيش تقلبات وتغيرات، ويواكب بدايات ونهايات، وهكذا الليالي والأيام والشهور والأعوام، وتلك سنن لا تتغير، ونواميس لا تتبدل:{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}[النور:٤٤].
إخوة الإسلام: أرأيتم لو أن ضيفاً عزيزاً ووافداً حبيباً حلَّ في ربوعكم، ونزل بين ظهرانيكم، وغمركم بفضله وإحسانه، وأفاض عليكم من بره وامتنانه، فأحبكم وأحببتموه، وألِفَكم وألِفْتموه، ثم حان وقت فراقه، وقربت لحظات وداعه، فبماذا عساكم مودِّعوه؟ وبأي شعور أنتم مفارقوه؟ كيف ولحظات الوداع تثير الشجون، وتُبكي المقل والعيون، وتنكأ الالتياع، ولا سيما وداع المحب المُضَنَّى لحبيبه المُعَنَّى؟! وهل هناك فراق أشد وقعاً ووداعاًَ، وأكثر أساً والتياعاً من وداع الأمة الإسلامية هذه الأيام لضيفها العزيز ووافدها الحبيب شهر البر والجود والإحسان، شهر القرآن والغفران والعتق من النيران، شهر رمضان المبارك؟! فالله المستعان!
عباد الله: لقد شمر الشهر عن ساق، وآذن بوداع وانطلاق، ودنا منه الرحيل والفراق، لقد قُوِّضت خيامُه، وتصرَّمت أيامُه، وأزِف رحيلُه، ولم يبقَ إلا قليلُه، وقد كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني بقدومه، ونسأل الله بلوغه، واليوم نتلقى التعازي برحيله، ونسأل الله قبوله.