للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[المنتقى]

فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ بَعْضَ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَنَّ نِحْلَتَهُ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمْ تَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ لِفَضْلِ عَائِشَةَ عَلَى سَائِرِ إخْوَتِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهَا لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْك وَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الْوَلَدُ فَيَبَرُّهُ بَعْضُهُمْ فَيُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَهُ عَطِيَّةً مِنْ مَالِهِ دُونَ غَيْرِهِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.

١ -

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهُ مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ الْغَابَةُ مَوْضِعٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْهِبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا قَبْضٌ، وَإِنَّمَا تَنْعَقِدُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ بِقَوْلِ الْوَاهِبِ قَدْ وَهَبْته لَك وَفِي الصَّدَقَةِ قَدْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك وَقَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ، أَوْ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ قَدْ قَبِلْت وَأَنْ يُؤَخِّرَ الْقَبْضَ فَيَلْزَمُ وَيُجْبَرُ الْوَاهِبُ وَالْمُتَصَدِّقُ عَلَى التَّسْلِيمِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِمَا لَا تَنْعَقِدُ الْهِبَةُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١] وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ الْعُقُودِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ انْعِقَادُهُ إلَى الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ.

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهَا فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ يَا بُنَيَّةُ وَاَللَّهِ مَا مِنْ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْك يُرِيدُ أَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ مِنْهُ وَأَحَسَّ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ مَا تَيَقَّنَ بِهِ الْوَفَاةَ قَالَ لَهَا الْقَوْلَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْنِيسِ لَهَا وَالْإِعْلَامِ لَهَا بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ إمْضَاءِ هِبَتِهِ لَهَا عَدَمُ إشْفَاقِهِ عَلَيْهَا وَمَحَبَّتِهِ لَهَا وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا وَقَوْلُهُ أَحَبُّ غِنًى بَعْدِي مِنْك يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ " بَعْدِي " مِمَّنْ يَخْلُفُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فِي حَيَاتِهِ وَيَكُونُ مَعْنًى " بَعْدِي " غَيْرِي.

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهُ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ مَعْنَاهُ جِدَادُ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرِ نَخْلِهِ إذَا جُدَّ، وَقَالَ ثَابِتٌ قَوْلُهُ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ يَجِدُّ مِنْهَا وَيَصْرُمُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ يُقَالُ هَذِهِ أَرْضُ جَادِّ مِائَةِ وَسْقٍ يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ يُجَدُّ مِنْهَا فَعَلَى تَفْسِيرِ عِيسَى قَوْلُهُ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا صِفَةٌ لِلثَّمَرَةِ الْمَوْهُوبَةِ فَتَقْدِيرُهُ وَهَبَهَا عِشْرِينَ وَسْقًا مَجْدُودَةً وَعَلَى تَفْسِيرِ ثَابِتٍ قَوْلُهُ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا صِفَةٌ لِلنَّخْلِ الَّتِي وَهَبَ ثَمَرَتَهَا فَمَعْنَاهُ وَهَبَهَا ثَمَرَةَ نَخْلٍ يَجِدُّ مِنْهَا عِشْرُونَ وَسْقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.

١ -

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهُ فَلَوْ كُنْت جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ لَكَانَ لَك، يَقْتَضِي أَنَّ الْحِيَازَةَ وَالْقَبْضَ شَرْطٌ فِي تَمَامِ الْهِبَةِ وَأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَحُزْ مَا وَهَبَهَا فِي صِحَّتِهِ لَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ فَإِنْ كَانَتْ هِبَةُ الثَّمَرَةِ عَلَى الْكَيْلِ فَإِنَّ الْحِيَازَةَ لَا تَكُونُ فِيهَا إلَّا بِالْكَيْلِ بَعْدَ الْجَدِّ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهَا لَوْ كُنْت جَدَدْتِيهِ وَحُزْتِيهِ، وَإِنْ كَانَ وَهَبَهَا ثَمَرَةَ نَخْلٍ مُعَيَّنَةٍ فَالْحِيَازَةُ فِيهَا عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَرِضَ فَقَامَ الْمُعْطِي يَطْلُبُهُ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ فِيهِ اخْتِلَافٌ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ قَبْضَهُ الْآنَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يُعْطِ ذَلِكَ عَائِشَةَ لَمَّا مَرِضَ، وَقَالَ أَشْهَبُ يُقْضَى لَهُ الْآنَ بِثُلُثِهَا، وَإِنْ صَحَّ لَهُ بِبَاقِيهَا وَلَا أَرَى قَوْلَ مَنْ قَالَ تَجُوزُ كُلُّهَا مِنْ الثُّلُثِ وَلَا قَوْلَ مَنْ أَبْطَلَ جَمِيعَهَا.

وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْمَرَضَ يَمْنَعُ الْحِيَازَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَيَمْنَعُ الْمَوْتُ الْحِيَازَةَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ فَيَتَصَدَّقُ الرَّجُلُ بِمَالِهِ وَيَبْقَى بِيَدِهِ إذَا تُوُفِّيَ أَخَذَ جَمِيعَهُ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ فَمَنَعَ ذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَوَارِيثِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَ وَلَمَّا كَانَ الْمَرَضُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ الْحِيَازَةَ كَمَا يَمْنَعُهَا الْمَوْتُ، وَفِي ذَلِكَ بَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ حِيَازَةً، وَالثَّانِي: مَا يَمْنَعُ الْحِيَازَةَ، فَأَمَّا الْحِيَازَةُ فَلَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ حَاضِرَةً مَعَ الْمَوْهُوبِ لَهُ، أَوْ غَائِبَةً عَنْهُ فَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْأَرَضِينَ وَالْأُصُولِ الثَّابِتَةِ، أَوْ يَكُونُ مِمَّا يُنْقَلُ كَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْأَرَضِينَ فَإِنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي لَا عَمَلَ فِيهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>