عَلَى ظَنِّهِ نَجَاسَتُهُ تَرَكَهُ، أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحَرِّي فِي تَحْدِيدِ قَوْلِ الْمَازِرِيِّ وَنَقَلَهُ ابْنُ شَاسٍ.
(الْحَادِيَ عَشَرَ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الِاشْتِبَاهُ الِالْتِبَاسُ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحَرِّي فَلَا بُدَّ هُنَاكَ مِنْ أَمَارَةٍ، أَوْ دَلِيلٍ فَلَيْسَ الِالْتِبَاسُ بِحَقِيقِيٍّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَمَارَاتِ.
(قُلْتُ:) وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ شَاسٍ عَنْ ابْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ سَحْنُونٍ الْقَائِلَيْنِ بِالتَّحَرِّي، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ أَحَدِ الْأَوَانِي إلَّا بِالِاجْتِهَادِ وَطَلَبِ عَلَامَةٍ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ الطَّهَارَةَ اهـ. فَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ عَلَامَةٌ فَالظَّاهِرُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَنَّهُ يَتْرُكُ الْجَمِيعَ وَيَتَيَمَّمُ وَنَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنْ الْغَزَالِيِّ مُتَمِّمًا بِهِ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَوْلَ ابْنِ الْقَصَّارِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(الثَّانِي عَشَرَ) عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحَرِّي لَوْ صَلَّى بِمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ طَاهِرٌ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَإِنْ كَانَ إلَى الْيَقِينِ فِي اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ غَسَلَ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ وَإِنْ تَغَيَّرَ إلَى الظَّنِّ فَيَخْرُجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي نَقْضِ الظَّنِّ بِالظَّنِّ كَالْمُصَلِّي إلَى الْقِبْلَةِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ أَخْطَأَ قَالَهُ فِي الْجَوَاهِرِ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ الْمَازِرِيِّ، فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: عَلَى التَّحَرِّي، إنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بِعِلْمٍ أَعَادَ الصَّلَاةَ وَبِظَنٍّ قَوْلَانِ كَنَقْضِ ظَنِّ الْحَاكِمِ بِظَنِّهِ، وَقَالَ فِي الشَّامِلِ: وَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بِعِلْمٍ عَمِلَ عَلَيْهِ لَا بِظَنٍّ عَلَى الْأَظْهَرِ.
(الثَّالِثَ عَشَرَ) فِي تَوْجِيهِ الْأَقْوَالِ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ هَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَ لَهَا مَأْخَذٌ مِنْ نَصٍّ يَمَسُّهَا أَوْ يُقَارِبُهَا وَإِنَّمَا اسْتَدَلُّوا بِعُمُومَاتٍ بَعِيدَةٍ، مِثْلُ مَا اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ التَّحَرِّي بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ٢] ، وَأَصْحَابُ التَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» اهـ. وَقَدْ وَجَّهَهُ أَهْلُ الْمَذْهَبِ بِوُجُوهٍ نَذْكُرُ بَعْضَهَا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ.
أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ فَلِأَنَّ الشَّخْصَ مَعَهُ مَاءٌ مُحَقَّقُ الطَّهَارَةِ قَادِرٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَيَقُّنِ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ إلَّا بِذَلِكَ وَلَمْ تُغْسَلْ الْأَعْضَاءُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ نَجَاسَتِهَا.
وَهُوَ وَجْهُ الثَّانِي إلَّا أَنَّهُ رَأَى الْغَسْلَ أَقْرَبَ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِلطَّهَارَةِ لِتَيَقُّنِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ قَبْلَ الْوُضُوءِ الثَّانِي.
وَوَجْهُ الثَّالِثِ الْقِيَاسُ عَلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ.
وَوَجْهُ الرَّابِعِ أَنَّ الْغَالِبَ مَعَ الْكَثْرَةِ إصَابَةُ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ الْقِلَّةِ وَلِأَنَّهُ مَعَ الْكَثْرَةِ يَشُقُّ اسْتِعْمَالُهَا. وَأَمَّا مَعَ الْقِلَّةِ فَيَخِفُّ أَمْرُهَا.
وَوَجْهُ الْخَامِسِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ الطَّهُورِ وَهُوَ هُنَا عَادِمٌ لَهُ لِوُقُوعِ الشَّكِّ، وَإِلْزَامُ وُضُوءَيْنِ وَصَلَاتَيْنِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالتَّحَرِّي لَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ بِيَقِينٍ.
(الرَّابِعَ عَشَرَ) الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَوَانِي وَالثِّيَابِ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيهِمَا خِفَّةُ أَمْرِ النَّجَاسَةِ بِدَلِيلِ الِاخْتِلَافِ فِي إزَالَتِهَا، وَلَا كَذَلِكَ الْمَاءُ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي اشْتِرَاطِ الْمُطْلَقِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ، قَالَ: وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ هُنَا فَانْظُرْهُ. يُشِيرُ إلَى قَوْلِهِ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَيَتَحَرَّى فِي الثِّيَابِ إنْ كَانَ الْقَائِلُ هُنَا بِالتَّحَرِّي يَقُولُ فِي الْأَوَانِي بِهِ فَحَسَنٌ وَإِلَّا فَمُشْكِلٌ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
(الْخَامِسَ عَشَرَ) عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَنَّهُ يُصَلِّي بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ وَاحِدٍ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ غَيْرَ جَازِمَةٍ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِمَا صَلَّى وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ إنْ نَوَى بِهَا الْفَرْضَ كَانَ ذَلِكَ رَفْضًا لِلْأُولَى، وَإِنْ نَوَى بِهَا النَّفَلَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ، وَإِنْ نَوَى التَّفْوِيضَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ نِيَّةٍ جَازِمَةٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِمَا صَلَّى لَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزِيَادَةِ وَاحِدٍ فَلَا يَكْتَفِي بِدُونِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَنِيَّتُهُ جَازِمَةٌ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضُهُ وَهُوَ لَازِمٌ فِيمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسٍ لَا يَدْرِي عَيْنَهَا وَهَذَا وَهْمٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَبِهَذَا يَسْقُطُ قَوْلُهُ: لِأَنَّ الثَّانِيَةَ إنْ نَوَى بِهَا الْفَرْضَ كَانَ ذَلِكَ رَفْضًا لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَجْمُوعِ فَرْضُهُ، وَبِهِ يَسْقُطُ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّفْوِيضِ اهـ.
وَالْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ