وإنما أُمر الناس بطلاق السُّنّة نظرًا للزوجين، وأن لا يُطلق عليهما الرجعةَ أو التراجع، ألا تراه جل ثناؤه قال:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}، وإذا كان الطلاق الثاني في الطهر الثاني لا عِدّة له، والعِدّة بالطلاق الأول، فأيُّ فائدة في الثاني إلا مخالفة أمر اللَّه عز وجل، والدخول في التضييق على نفسه؟ لأن اللَّه عز وجل يقول:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}، فعُلم أن الطلاق الذي أمر اللَّه به تكون منه عِدّة، فقد دخل أصحاب أبي حنيفة فيما أنكروه على الشافعي، من إباحة الطلاق الثلاث في مقام واحد.
وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فتلك العدة التي أمر اللَّه أن يُطَلَّق لها النساء"، فالأمر في كتاب اللَّه للوقت، وأمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما هو للوقت، وقد ذكرنا احتجاج الشافعي بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لابن عمر، ولا أحسب الشافعي يكون أعلم بذلك من المخاطبين به، وهما عمر وابن عمر، وقد قالا جميعًا: من طلق ثلاثًا فقد عصى ربه عز وجل، ولو كان للسُّنّة الثلاث بطلت الفائدة في قوله:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}، وقد قال المفسرون جميعًا: هي الرجعة (١)، وقد قال اللَّه عز وجل:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}[الطلاق: ٢]، فعُلم أن الذي طلق ثلاثًا غيرُ مخاطب بذلك.
فأما قوله:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}[الطلاق: ٢]، يشبه قوله في البقرة:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}، فأمر هذا عند انقضاء العدة أن لا يُراجعها مُضارة لها، لأن الرَّجعة إنما هي له من قبل أن تنقضي عدتها، والآية التي في البقرة إنما كان الرجل يطلق، فإذا قاربت انقضاء العدة ارتجع من غير رغبة، ثم يطلق ليُطَوِّل عليها عدتها ويعذبَها، فنُهوا عن ذلك.
(١) قاله الشعبي، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد، وسفيان، وغيرهم، انظر أحكام القرآن للقاضي إسماعيل (ص ٢٤٥)، وتفسير ابن جرير في تفسيره (١٢/ ١٨٢).