[الاقتداء بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ميراث المؤمن]
وقد صنف ابن أبي الدنيا كتاباً عظيماً بين فيه خطورة سوء الخلق، وسماه (مساوئ الأخلاق)، وصنف كتاباً آخر يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام ضرب المثل الأعلى في غير ذلك وسماه (مكارم الأخلاق)، والله تبارك وتعالى قد أثنى على نبيه وعظمه وشرفه، وبين أنه تخلق بجميل الأخلاق وعظيمها وأحسنها فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤].
ولما كانت الأسوة كل الأسوة في الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في هديه وسمته كان لابد أن نتخلق بأخلاقه الكريمة الحسنة، والنبي عليه الصلاة والسلام ضرب أمثلة عظيمة يطول الوقت بسردها، فقد كان يعامل الجفاة الغلاظ الأعتال المتعنتين معاملة حسنة، وكان ذلك سبباً في هدايتهم، ورجوعهم إلى دين الله عز وجل، وفي دخولهم في دين الله عز وجل، وانتقالهم من الكفر إلى الإيمان.
والأخلاق الحسنة إنما هي ميراث الصالحين، وسئل أحمد بن حنبل رضي الله تبارك وتعالى عنه ورحمه عن ميراثه، وعما يعتز به في دنياه، فقال: لقاء الإخوان.
لقاء الإخوان والحرص على مودتهم وصحبتهم هو ميراثكم، فاتقوا الله تبارك وتعالى، وحسنوا أخلاقكم فيما بينكم وبين الخلق أجمعين، وفيما بينكم وبين رب العالمين، ومع نسائكم في بيوتكم، ومع أولادكم، وعلموهم كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، واحرصوا على أن يكونوا هداة مهديين.
وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح سنته أن العمل الصالح لا يرد، وأن صاحبه مأجور كل الأجر، فقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود: (إنما مكارم الأخلاق ميراث المؤمن).
فمكارم الأخلاق مواريث المؤمنين، فحسنوا أخلاقكم مع كل من تقابلون، لا أن يكون شعارنا تعبيس الوجه والتكشير عن الأنياب عند اللقاء وإبداء كل السوء، فقد التقى النبي عليه الصلاة والسلام بصناديد الكفر والشرك وعبدة الأصنام والأوثان، ومع هذا هش عليه الصلاة والسلام في وجوههم ولقيهم أحسن لقاء، فهذا منافق طرق عليه الباب فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من؟ فقال: فلان بن فلان، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بئس أخو العشيرة، ثم أذن له بالدخول، قالت عائشة رضي الله عنها: فلما دخل هش النبي عليه الصلاة والسلام في وجه ذلك الرجل، فلما خرج قلت: يا رسول الله! رأيتك تفعل فعلاً ما رأيتك وما عهدتك عليه من قبل، قال: يا عائشة! إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه).
وهؤلاء المنافقون لا يتورعون عن سب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال سيدهم وإمامهم: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:٨]، وقصد أنه العزيز عليه لعنة الله، وأن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذليل، فأذله الله عز وجل، والجزاء من جنس العمل، فقد أذله الله على يد ابنه الأكبر عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان ابنه من أهل الإيمان والإحسان الذي حسن إيمانه وعمله، وعظم حبه لله تبارك وتعالى ولرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، بخلاف والده الذي أساء مع الله، وأساء مع النبي عليه الصلاة والسلام، فرماه الله بالذل والصغار، وهو الذليل والصغير، والنبي عليه الصلاة والسلام هو العظيم والقوي والشريف والإمام، وخليفة الله تبارك وتعالى في أرضه.
والأخلاق الحسنة تدل على صاحبها، والأخلاق السيئة تدل كذلك على صاحبها، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه).
وقد سمعت أن أحد المسلمين ادعى أنه أحرص من إخوانه جميعاً على حب الله ورسوله، وعلى انتشار الدعوة بين أبناء الأمة الإسلامية شرقاً وغرباً، حتى بلغ به الأمر أن شهر السيف في وجه إخوانه؛ ادعاء وزعماً منه أنه يحب الله تعالى ورسوله، وأنه يدافع عن دين الله حتى آخر قطرة من دمه، وكذب ورب الكعبة، فإنما مثله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: هلك الناس فهو أهلَكَهم)، أي: هو تسبب في هلاكهم، وفي رواية أنه قال: (من قال: هلك الناس فهو أهلًكُهم)، أي: فهو أشدهم هلاكاً.
فهذا الزاعم لا يخرج عن أحد هذين الشخصين، فإما أنه أشد الناس هلاكاً، وإما أنه هو الذي تسبب في هلاك الناس، ولا أرى إلا أن الله تعالى جمع له بين الأمرين، فعليه أن يتوب ويرجع، وإلا فليصل في بيته صلاة النساء، ويكف أذاه عن الناس، فإن هذا أكرم له، والنبي عليه الصلاة والسلام سن لمن لم يكن قادراً على أن ينفع إخوانه أن يمكث في بيته، وأن يكف عنهم أذاه، وذلك منه صدقة، فكف الأذى عن الناس وعن الخلق أولى ألف مرة من حضور صلاة الجماعة وإيذاء المسلمين من خلالها، وعامة الناس أبلغوا الجهات المسئولة أن فلاناً تهجم عليهم مرة بالضرب ومرة بالسب، ومرة باللعن، بل وبلغ الأمر به أن شهر السيف في وجوههم، فإنا لله وإنا إليه