تُعْطِيهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ أَنَّهَا تَرُدُّ وَتُرْجِعُ شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا بَعْدَ مَغِيبِهِمَا، وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ فَاعْلَمْ أَنَّ الصَّدْعَ هُوَ الشَّقُّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الرُّومِ: ٤٣] أَيْ يَتَفَرَّقُونَ وَلِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَنْشَقُّ عَنِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْجَبَلَانِ بَيْنَهُمَا شَقٌّ وَطَرِيقٌ نَافِذٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا [الْأَنْبِيَاءِ: ٣١] وَقَالَ اللَّيْثُ:
الصَّدْعُ نَبَاتُ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يَصْدَعُ الْأَرْضَ فَتَنْصَدِعُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا سُمِّيَ النَّبَاتُ صَدْعًا لِأَنَّهُ صَادِعٌ لِلْأَرْضِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ، كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ الْحَيَوَانِ دَلِيلًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، ذَكَرَ فِي هَذَا الْقِسْمِ كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ النَّبَاتِ، فَالسَّمَاءُ ذَاتُ الرَّجْعِ كَالْأَبِ، وَالْأَرْضُ ذَاتُ الصَّدْعِ كَالْأُمِّ وَكِلَاهُمَا مِنَ النِّعَمِ الْعِظَامِ لِأَنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْمَطَرِ مُتَكَرِّرًا، وَعَلَى مَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَ هَذَا الْقَسَمَ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَقَالَ:
[في قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ] إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا الضَّمِيرِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: مَا قَالَ الْقَفَّالُ وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ قُدْرَتِي عَلَى إِحْيَائِكُمْ فِي الْيَوْمِ/ الَّذِي تُبْلَى فِيهِ سَرَائِرُكُمْ قَوْلٌ فَصْلٌ وَحَقٌّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ أَيِ الْقُرْآنُ فَاصِلٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا قِيلَ: لَهُ فُرْقَانٌ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّالِفِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَقَوْلٌ فَصْلٌ أَيْ حُكْمٌ يَنْفَصِلُ بِهِ الْحَقُّ عَنِ الْبَاطِلِ، وَمِنْهُ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ وَهُوَ قَطْعُهَا بِالْحُكْمِ، وَيُقَالُ: هذا فَصْلٌ أَيْ قَاطِعٌ لِلْمِرَاءِ وَالنِّزَاعِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَدٌّ حَقٌّ لِقَوْلِهِ: وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أَيْ بِاللَّعِبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِالْجَدِّ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِاللَّعِبِ، ثُمَّ قَالَ: وَما هُوَ بِالْهَزْلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَيَانَ الْفَصْلَ قَدْ يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْجَدِّ وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ سَبِيلِ الْجَدِّ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَذَلِكَ الْكَيْدُ عَلَى وُجُوهٍ. مِنْهَا بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ كَقَوْلِهِمْ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: ٢٩] مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٧٨] أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥] لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: ٣١] فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الْفُرْقَانِ: ٥] وَمِنْهَا بِالطَّعْنِ فِيهِ بِكَوْنِهِ سَاحِرًا وَشَاعِرًا وَمَجْنُونًا، وَمِنْهَا بِقَصْدِ قَتْلِهِ عَلَى مَا قَالَهُ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ [الْأَنْفَالِ: ٣٠] ثُمَّ قَالَ: وَأَكِيدُ كَيْداً.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَيْدَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: دَفْعُهُ تَعَالَى كَيْدَ الْكَفَرَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُقَابِلُ ذَلِكَ الْكَيْدَ بِنُصْرَتِهِ وَإِعْلَاءِ دِينِهِ تسمية لأحد المتقابلين باسم كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: ١٩] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النِّسَاءِ:
١٤٢] وَثَانِيهَا: أَنَّ كَيْدَهُ تَعَالَى بِهِمْ هُوَ إِمْهَالُهُ إِيَّاهُمْ عَلَى كفرهم حتى يأخذهم على غرة، [في قوله تعالى فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] ثُمَّ قَالَ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَيْ لَا تَدْعُ بِهَلَاكِهِمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِإِمْهَالِهِمْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِمْهَالَ الْمَأْمُورَ به