طَعَامًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ دَفَعَ عَنْهُ بَلَاءً، فَلَوْلَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْمَطْعُومَ وَالْمَلْبُوسَ وَالْأَدْوِيَةَ وَالْأَغْذِيَةَ وَإِلَّا لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ عَلَى إِعْطَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ثُمَّ بَعْدَ وُصُولِ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ إِلَيْهِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِلرَّاحَةِ لَمَا حَصَلَ النَّفْعُ بِذَلِكَ، فَإِذَا رَحْمَةُ الْعِبَادِ مَسْبُوقَةٌ بِرَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَمَلْحُوقَةٌ بِرَحْمَتِهِ بَلْ رَحْمَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ كَالْقَطْرَةِ فِي الْبَحْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَوْ لَمْ يَخْلُقْ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ تِلْكَ الدَّوَاعِيَ وَالْإِرَادَاتِ لَاسْتَحَالَ صُدُورُ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْهُ، فَكَانَ الرَّاحِمُ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَلَأَ الدُّنْيَا مِنَ الْآفَاتِ وَالْأَسْقَامِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ وَسَلَّطَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ بِالذَّبْحِ وَالْكَسْرِ وَالْإِيذَاءِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُغْنِيَ كُلَّ وَاحِدٍ عَنْ إِيلَامِ الْآخَرِ وَإِيذَائِهِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ ضَارًّا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ نَافِعًا، بَلْ هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ فَإِضْرَارُهُ لَيْسَ لِدَفْعِ مَشَقَّةٍ وَإِنْفَاعُهُ لَيْسَ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ، بَلْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ، لَكِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ، كَمَا يُقَالُ إِنْ رَأَيْتَ أَوْ أَرَدْتَ أَوْ أَحْبَبْتَ فَافْعَلْ كَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ وَإِنْ كَانَ الْأَلْيَقُ بِالْأَدَبِ وَبِدَلَالَةِ الْآيَةِ هو الأول، ثم إنه سبحانه بين أن كَشَفَ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِعَادَتَهُ إِلَى مَا كَانَ فِي بَدَنِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ آتَاهُ أَهْلَهُ وَيَدْخُلُ/ فِيهِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنْ زَوْجَةٍ وَوَلَدٍ وَغَيْرِهِمَا ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَكَعْبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَحْيَا لَهُ أَهْلَهُ يَعْنِي أَوْلَادَهُ بِأَعْيَانِهِمْ. وَالثَّانِي: رَوَى اللَّيْثُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: أَرْسَلَ مُجَاهِدٌ إِلَى عِكْرِمَةَ وَسَأَلَهُ عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ: قِيلَ لَهُ إِنَّ أَهْلَكَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ فَإِنْ شِئْتَ عَجَّلْنَاهُمْ لَكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ شِئْتَ كَانُوا لَكَ فِي الْآخِرَةِ وَآتَيْنَاكَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ: يَكُونُونَ لِي فِي الْآخِرَةِ وَأُوتَى مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَعْطَاهُ مَعَهُمْ مِثْلَهُمْ أَيْضًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ لِكَيْ يَتَفَكَّرَ فِيهِ فَيَكُونَ دَاعِيَةً لِلْعَابِدِينَ فِي الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَابِدِينَ بِالذِّكْرِ [ى] لأنهم يختصون بالانتفاع بذلك.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)
الْقِصَّةُ السابعة
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ صَبْرَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَانْقِطَاعَهُ إِلَيْهِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَيْضًا مِنَ الصَّابِرِينَ عَلَى الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ وَالْعِبَادَةِ، أَمَّا إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِأَنَّهُ صَبَرَ عَلَى الِانْقِيَادِ لِلذَّبْحِ، وَصَبَرَ عَلَى الْمُقَامِ بِبَلَدٍ لَا زَرْعَ فِيهِ وَلَا ضَرْعَ وَلَا بِنَاءَ، وَصَبَرَ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ، فَلَا جَرَمَ أكرمه اللَّه تعالى وأخرج صُلْبِهِ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَأَمَّا إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
«بَعَثَ إِلَى قَوْمِهِ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَأَبَوْا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّه تَعَالَى وَرَفَعَ إِدْرِيسَ إلى السماء الرابعة» وأما ذوا الْكِفْلِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهَا بَحْثَانِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute