قِيلَ هُمْ مَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ بَلْ كَانُوا يَجْزِمُونَ بِعَدَمِهَا، فَنَقُولُ الِانْتِظَارُ فِعْلِيٌّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ فَاعِلُهُ الْبَوَارَ وَتَعْجِيلَ الْعَذَابِ وَتَقْرِيبَ السَّاعَةِ لَوْلَا حُكْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ أَوْ نَقُولُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ مَتَى اسْتِفْهَامًا حَقِيقِيًّا قَالَ يَنْتَظِرُونَ انْتِظَارًا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، لِأَنَّ الْقَائِلَ مَتَى يفهم منه الانتظار نظرا إلى قوله. وقد ذكروا هاهنا فِي الصَّيْحَةِ أُمُورًا تَدُلُّ عَلَى/ هَوْلِهَا وَعِظَمِهَا أحدها: التنكير يقال لفلان مال أي كَثِيرٌ وَلَهُ قَلْبٌ أَيْ جَرِيءٌ وَثَانِيهَا: وَاحِدَةٌ أَيْ لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى ثَانِيَةٍ وَثَالِثُهَا: تَأْخُذُهُمْ أَيْ تَعُمُّهُمْ بِالْأَخْذِ وَتَصِلُ إِلَى مَنْ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَظِيمًا.
وَقَوْلُهُ: تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ، مِمَّا يَعْظُمُ بِهِ الْأَمْرُ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ الْمُعْتَادَةَ إِذَا وَرَدَتْ عَلَى غَافِلٍ يَرْجُفُ فَإِنَّ الْمُقْبِلَ عَلَى مُهِمٍّ إِذَا صَاحَ بِهِ صَائِحٌ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ بِخِلَافِ الْمُنْتَظِرِ لِلصَّيْحَةِ، فَإِذَا كَانَ حَالُ الصَّيْحَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ وَتَرِدُ عَلَى الْغَافِلِ الَّذِي هُوَ مَعَ خصمه مشغول يكون الارتجاف أتم والإيحاف أَعْظَمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَخِصِّمُونَ فِي الْبَعْثِ وَيَقُولُونَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَصْلًا فَيَكُونُونَ غَافِلِينَ عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَكُونُ فَيَتَهَيَّأُ له وَيَنْتَظِرُ وُقُوعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَرْتَجِفُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ [الزُّمَرِ: ٦٨] مِمَّنِ اعْتَقَدَ وُقُوعَهَا فَاسْتَعَدَّ لَهَا، وَقَدْ مَثَّلْنَا ذَلِكَ فِيمَنْ شَامَ بَرْقًا وَعَلِمَ أَنْ سَيَكُونَ رعد وَمَنْ لَمْ يَشِمْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ ثُمَّ رَعَدَ الرَّعْدُ تَرَى الشَّائِمَ الْعَالِمَ ثَابِتًا وَالْغَافِلَ الذَّاهِلَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَّنَ شِدَّةَ الْأَخْذِ وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تُمْهِلُهُمْ إِلَى أَنْ يُوصُوا. وَفِيهِ أُمُورٌ مُبَيِّنَةٌ لِلشِّدَّةِ أَحَدُهَا: عَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ فَإِنَّ قول القائل فلأن في هذه الْحَالِ لَا يُوصِي دُونَ قَوْلِهِ لَا يَسْتَطِيعُ التَّوْصِيَةَ لِأَنَّ مَنْ لَا يُوصِي قَدْ يَسْتَطِيعُهَا الثَّانِي: التَّوْصِيَةُ وَهِيَ بِالْقَوْلِ وَالْقَوْلُ يُوجَدُ أَسْرَعَ مما يوجد الفعل فقال: لا يَسْتَطِيعُونَ كَلِمَةً فَكَيْفَ فِعْلًا يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَرَدِّ الْمَظَالِمِ الثَّالِثُ: اخْتِيَارُ التَّوْصِيَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكَلِمَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَهَمِّ الْكَلِمَاتِ فَإِنَّ وَقْتَ الْمَوْتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّوْصِيَةِ أَمَسُّ الرَّابِعُ: التَّنْكِيرُ فِي التَّوْصِيَةِ لِلتَّعْمِيمِ أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَوْصِيَةٍ مَا وَلَوْ كَانَتْ بِكَلِمَةٍ يَسِيرَةٍ، وَلِأَنَّ التَّوْصِيَةَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ فَالْعَاجِزُ عَنْهَا عَاجِزٌ عَنْ غَيْرِهَا الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ بَيَانٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّوْصِيَةِ لِأَنَّ مَنْ يَرْجُو الْوُصُولَ إِلَى أَهْلِهِ قَدْ يُمْسِكُ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَأَمَّا مَنْ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا وُصُولَ لَهُ إِلَى أَهْلِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ التَّوْصِيَةِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ مَعَ الْحَاجَةِ دَلَّ عَلَى غَايَةِ الشِّدَّةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يُمْهَلُونَ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا بِأَهَالِيهِمْ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَاجَةَ إِلَى التَّوْصِيَةِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، يَعْنِي يَمُوتُونَ وَلَا رُجُوعَ لَهُمْ إِلَى الدُّنْيَا، وَمَنْ يُسَافِرُ سَفَرًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ السَّفَرِ وَلَا اجْتِمَاعَ لَهُ بِأَهْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى يَأْتِي بِالْوَصِيَّةِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا بَعْدَ بالصيحة الأول فقال:
[[سورة يس (٣٦) : آية ٥١]]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute