العذر الحقيقي: كنا مستضعفين ومستذلين في مكة، فلم نقدر على إقامة الدين وواجباته، وهذه حجة واهية، ولذا قالت لهم الملائكة: ألم تكن أرض الله التي يمكنكم فيها القيام بواجبات الدين والهجرة مع الرسول بدون تعرض لكم، ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟؟ نعم هي واسعة ولكنكم رضيتم بالذل، وآثرتم الدنيا على نصرة الحق. فأولئك جزاؤهم جهنم وبئس المصير مصيرهم.
وفي هذا إشارة إلى أنه يجب على المسلم أن يفر بدينه إلى حيث يمكنه أن يقيم حدوده وواجباته حسبما أمر الله، وقد استثنى الله من هؤلاء صنفا وهم المستضعفون حقيقة الذين لهم عذر مقبول كالشيوخ الضعفاء، والعجزة من النساء والولدان الذين لا يستطيعون الهجرة، وقد ضاقت بهم الحيل، وعميت عليهم الطرق فلا يهتدون إلى سبيل منها، مثل عياش بن ربيعة. ومسلمة بن هشام، وأم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عباس، وغيرهم، على أن المراد بالولدان المراهقون لا الصبيان، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، ولا يؤاخذهم بالإقامة في دار الشرك وترك الهجرة، وفي هذا إشارة إلى أن ترك الهجرة ذنب كبير، وكان الله كثير العفو عن الذنوب غفورا لأصحابها.
وأما المهاجرون في سبيل الله وإن كان بهم ضعف فمن يهاجر منهم يجد في الأرض مكانا للهجرة، ومأوى يسلكه، فيه الخير والسعة والرزق والعزة، وهذا ترغيب في الهجرة، ووعد صريح لمن يخشى ترك المال والأهل ومشقة السفر والبعد عن الديار بأنه سيجد ما يغنيه ويرغم به أعداءه متى كانت هجرته خالصة لوجه الله!! ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت قبل الوصول إلى المدينة، فقد ثبت أجره على الله، والله هو الذي أوجب هذا تفضلا وإحسانا
«إنما الأعمال بالنيات» .
روى أنها نزلت في جندب بن ضمرة وكان قد بلغه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ (الآية) ، فقال لأولاده: احملوني إلى المدينة فلن أبيت بمكة الليلة، فحملوه ومات بالطريق فنزلت هذه الآية.
وما أعظم الفرق بين هذا الوعد المؤكد الذي لا يعلم كنهه إلا هو وبين الوعد بالمغفرة لمن ترك الهجرة لضعفه.