وقال تعالى:{ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} وشبه تعالى حال المنافقين في خروجهم من النور بعد أن أضاء لهم بحال مستوقد النار وذهاب نورها عنه بعد أن أضاءت ما حوله، لأن المنافقين بمخالطتهم المسلمين وصلاتهم معهم وصيامهم معهم وسماعهم القرآن ومشاهدتهم أعلام الإسلام ومناره قد شاهدوا الضوء ورأوا النور عياناً، ولهذا قال تعالى في حقهم {فهم لا يرجعون} إليه، لأنهم فارقوا الإسلام بعد أن تلبسوا به واستناروا فهم لا يرجعون إليه.
وقال تعالى في حق الكفار {فهم لا يعقلون} لأنهم لا يعقلوا الإسلام ولا دخلوا فيه ولا استناروا به ولا يزالون في ظلمات الكفر، صم بكم عمي، سبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافياً، وإلى الإيمان وحقائقه منادياً، وإلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم داعياً، وإلى الطريق الرشاد هادياً.
لقد أسمع منادي الإيمان لو صادف آذاناً واعية، وشفت مواعظ القرآن لو وافقت قلوباً خالية، ولكن عصفت على القلوب أهوية الشبهات والشهوات فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها أيدي الغفلة والجهالة فأغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها فلم ينفع فيها الكلام، وسكرت بشهوات الغي وشهادة الباطل فلم تصغ بعده إلى الملام، ووعظت بمواعظ أنكى فيها الأسنة والسهام، ولكن ماتت في بحر الجهل والغفلة وأسر الهوى والشهوة، وما لجرح بميت إيلام.
والمثل الثاني قوله تعالى:{أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين} الصيب المطر الذي يصوب من السماء أي ينزل منها بسرعة وهو مثل القرآن الذي به حياة القلوب كالمطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، فأدرك المؤمنين ذلك منه، وعلموا ما يحصل به من الحياة التي لا تخطر لها، فلم يمنعهم منها ما فيه من الرعد والبرق وهو الوعيد والتهديد والعقوبات والمثلات التي حذر الله بها من خالف أمره، وأخبر أنه منزلها بمن كذب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو ما فيه من الأوامر الشديدة كجهاد الأعداء والصبر على الأمر أو الأوامر الشاقة على النفوس التي هي بخلاف إرادتها فهي كالظلمات والرعد والبرق، ولكن من علم مواقع الغيث وما يحصل به من الحياة لم يستوحش لما معه من الظلمة والرعد والبرق، بل يستأنس لذلك ويفرح به لما يرجو من الحياة والخصب.
وأما المنافق فإنه عمي قلبه لم يجاوز بصره الظلمة ولم ير إلا