يكون ذلك كذلك. ولكن هذه هي الحقيقة لا تحجبها عنا إلَّا كبرياء النفس المتعالية. لقد كان القدماء من آبائنا رضوان الله عليهم يتخذون من شيوخهم أمثلة يسترشدون بها، وكانوا أقدر منا على ذلك لشدة تعلق الطالب منهم بشيخه من العلماء فهو يتشبه به ما استطاع، يسأله عن أشياء من صغائر العلم وأدب طلبه، يستحي أحد طلبتنا الآن أن يسأل عنها أباه أو أخاه أو أستاذه. ثم أن العلماء من المتقدمين كانوا يعمدون إلى طريقة بارعة في التدريس وهي التي يسمونها (التوقيف) ومعناها أن يدلَّ الشيخ ولده أو مريدهُ من الطلبة على أصول الشيء الذي يتلقاه عنه ويبسطها له ويدربه عليها، ثم يتركه يقيس عليها ثم يصحح له قياسه إن أخطأ. ولا يذهبنَّ بأحد أن هذا يشبه ما يسمونه الآن (بالتطبيق) فإن الفرق بينهما بيّن وليس هنا موضع تفصيل ذلك.
فهذا التوقيف الذي كان يقال في الأيام الماضية، لا يقيد بالكتاب قد جاء في كتاب السير جون آدمز طرف بارع منه حاوٍ لأكثر ما يحتاج إليه المتعلم صغيرًا وكبيرًا أو كما يقولون (من المهد إلى اللحد)، فهذا هو الباب الأول من التوفيق في ترجمة هذا الكتاب.
ثم يلى ذلك الباب الثاني من التوفيق وهو في طريقة الترجمة، فإن المترجم حين تعرض لها لم ينسَ ما ينساه جمهرة المترجمين في هذا العصر، وهو مقدار التخالف بين الأمة التي ألف لها ثم فيها الكتاب وبين الأمة التي يترجم لها وفي بلادها هذا الكتاب بعينه. وهذا أمر حتم على كل من يتصدّر للترجمة، فربّ مضرة استجلبها المترجم على قارئ كتابه بنسيان مقدار هذا التخالف بين الأمتين. ولكن الغمراوى أمسك المفتاح بيده وأداره في الكتاب كله فتسنت له وللقراء من بعده مغاليق الرأي، وكانت الفائدة أجل وأعظم وأوفي. وسيرى قارئ الكتاب حين يتمشى في صفحاته المثمرة كيف وفق الغمراوى كل التوفيق حين ترجم هذا الكتاب.
أما التوفيق الثالث فهو أسلوب المترجم في كتابه وهذا أمر يفرغ من الاقتناع به كل من يقابل صفحات من الأصل الإنكليزي بأخواتها من الترجمة.