للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبهجته وسروره بأن يرى عدوه في تلك الحال وهو في غاية النعيم؛ فهذا لو كان أقسى الخلق لرقّ لعدوه من طول عذابه ودوام ما يقاسيه= فلم يبق إلا كسر تلك النفوس الجبّارة العنيدة ومُداواتها بما يصل إلى مادة أدوائها وأمراضها فيَحْسمها، وتلك المادة شر طارئ على خير خُلِقت عليه في ابتداء فطرتها.

قالوا: والأقسام الممكنة في الخلق خمسة لا مزيد عليها: خير محض ومقابله، وخير راجح ومقابله، وخير وشر متساويان، والحكمة تقتضي إيجاد قسمين منها، وهما الخير الخالص والراجح.

وأما الشر الخالص أو الراجح فإن الحكمة لا تقتضي وجوده، بل تأبى ذلك؛ فإن كل ما خلقه الله تعالى فإنما خلقه بحكمةٍ وجودها أولى من عدمها، وخَلَق الدواب الشرّيرة والأفعال التي هي شر لما يترتّب على خَلْقها من الخير المحبوب، فلم تُخْلَق لمجرد الشر الذي لا يستلزم خيرًا بوجه ما، هذا غاية المحال، فالخير هو المقصود بالذات وبالقصد الأول، والشر إنما قُصِد قَصْد الوسائل والمبادئ لا قَصْد الغايات والنهايات.

وحينئذ فإذا حصلت الغاية المقصودة بخلقه بطل وزال، كما تبطل الوسائل عند الانتهاء إلى غاياتها، كما هو معلوم بالحسّ والعقل.

وعلى هذا فالعذاب شرّ وله غاية تُطلب به، وهو وسيلة إليها، فإذا حصلت غايته كان بمنزلة الطريق الموصلة إلى القصد، فإذا وصل بها السائر (١) إلى مقصده لم يبق لسلوكها فائدة.


(١) «م»: «دخل فيها المسافر».