هذا سر المسألة، ومن يذهب إلى هذا التقدير الثاني فإنه يقول: العقل لا يدل على امتناع ذلك، أو ليس فيه ما يحيله.
ونقول: بل قد دلّ العقل والنقل والفطرة على أن الربّ تعالى حكيم رحيم، والحكمة والرحمة تأبى بقاء هذه النفوس في العذاب سرمدًا أبد الآباد، بحيث يدوم عذابها بدوام الله، فهذا ليس في الحكمة والرحمة (١).
قالوا: وقد دلَّت الدلائل الكثيرة من النصوص والاعتبار، على أن ما شرعه الله في هذه الدار، أو قدَّره من العذاب والعقوبات، فإنما هو لتهذيب النفوس وتصفيتها من الشر الذي فيها، ولحصول مصلحة الزجر والاتعاظ، وفَطْمًا للنفوس عن المعاودة، وغير ذلك من الحكم التي إذا حصلت خلا التعذيب عن الحكمة والمصلحة فيبطل؛ فإنه تعذيب عليم حكيم رحيم لا يعذّب سدى، ولا لنفع يعود إليه بالتعذيب، بل كلا الأمرين محال، فإذًا لا يقع التعذيب إلا لمصلحة المعذِّب أو مصلحة غيره، ومعلوم أنه لا مصلحة له ولا لغيره في بقائه في العذاب سرمدًا أبد الآباد.
قالوا: فمما دَلّ عليه القرآن والسنة أنّ جنس الآلام لمصلحة بني آدم قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}[التوبة: ١٢٠]، وقوله تعالى:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: ١٤١]، فأخبر أنّ ألم القتل والجراح في سبيله تمحيص، أي تطهير وتصفية للمؤمنين، وبَشَّر الصابرين على ألم الجوع
(١) ناقش المؤلف هذه المسألة وذيولها في عدة مواضع من مصنفاته، من أوفاها ما حرره في «الصواعق المرسلة - المختصر» (٢/ ٦٣٥ - ٦٩٠).