فإنه سبحانه يتمدّح بالعفو والمغفرة والرحمة والكرم والحلم، ويتسمّى بها، ولم يتمدّح بأنه المعاقِب ولا الغضبان ولا المعذِّب ولا المنتقِم إلا في الحديث الذي فيه تعديد الأسماء الحسنى، ولم يثبت (١).
وقد كتب على نفسه كتابًا أنّ رحمته سبقت غضبَه، وكذلك هو في أهل النار، فإن رحمته فيهم سبقت غضبَه، فإنه رحمهم أنواعًا من الرحمة قبل أن أغضبوه بشركهم، ورحمهم في حال شركهم، ورحمهم بإقامة الحجة عليهم، ورحمهم بدعوتهم إليه بعد أن أغضبوه وآذوا رسله وكذبوهم، وأمهلهم ولم يعاجلهم، بل وسعتهم رحمتُه، فرحمته غلبت غضبه، ولولا ذلك لخرب العالم، وسقطت السماوات على الأرض، وخرّت الجبال.
وإذا كانت الرحمة غالبة للغضب سابقة عليه؛ امتنع أن يكون موجِب الغضب دائمًا بدوامه، غالبًا لرحمته.
قالوا: والتعذيب إما أن يكون عبثًا أو لمصلحة وحكمة، وكونه عبثًا مما يُنزَّه أحكم الحاكمين عنه، ونسبته إليه نسبةٌ لما هو من أعظم النقائص إليه.
وإن كان لمصلحة فالمصلحة هي المنفعة ولوازمها وملزوماتها، وهي إما أن تعود على الرب تعالى ــ وهو يتعالى عن ذلك ويتقدّس عنه ــ، وإما أن تعود إلى المخلوق، وذلك المخلوق إما نفس المعذَّب وإما غيره، أو هما، والأول ممتنع؛ إذ لا مصلحة له في دوام العقوبة بلا نهاية، وأما مصلحة غيره: فإن كانت هي الاتعاظ والانزجار فقد حصلت، وإن كانت تكميل لذته
(١) أخرجه الترمذي (٣٥٠٧)، وابن ماجه (٣٨٦١) من حديث أبي هريرة، وقد أعل بالاضطراب والإدراج، انظر: «فتح الباري» (١١/ ٢١٤) وما بعدها.