وسواء أكان هذا أم ذاك فإن إعجام المصاحف لم يحدث على المشهور إلا في عهد عبد الملك بن مروان إذ رأى أن رقعة الإسلام قد اتسعت، واختلط العرب بالعجم، وكادت العجمة تمسُّ سلامة اللغة، وبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف يُلِحُّ بالناس، حتى ليشق على السوادِ منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهي غير معجمة. هنالك رأى بثاقب نظره أن يتقدم للإنقاذ، فأمر الحجاج أن يُعنى بهذا الأمر الجلل، وندب الحجاجُ - طاعةً لأمير المؤمنين - رجلين جليلين يعالجان هذا المشكل، هما نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني. وكلاهما كفء قدير على ما نُدب له، إذ جمعا بين العلم والعمل، والصلاح والورع، والخبرة بأصول اللغة ووجوه قراءة القرآن وقد اشتركا أيضاً في التلمذة والأخذ عن أبي السود الدؤلي.
ويرحم الله هذين الشيخين، فقد نجحا في هذه المحاولة، وأعجما المصحف الشريف لأول مرة، ونقطا جميع حروفه المتشابهة، والتزما ألا تزيد النقط في أيِّ حرف على ثلاث. وشاع ذلك في الناس بعد، فكان له أثره العظيم في إزالة الإشكال واللبس عن المصحف الشريف.
وقيل: إن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي، وإن ابن سيرين كان له مصحف منقوط، نقطه يحيى بن يعمر. ويمكن التوفيق بين هذه الأقوال بأن أبا الأسود أول من نقط المصحف ولكن بصفة فردية، ثم تبعه ابن سيرين، وأن عبد الملك أول منْ نقط المصحف، ولكن بصفة رسمية عامة، ذاعت وشاعت بين الناس، دفعاً للبس والإشكال عنهم في قراءة القرآن.
واتفق المؤرخون على أن العرب في عهدهم الأول، لم يكونوا يعرفون شكل الحروف والكلمات فضلاً عن أن يشكلوها. ذلك لأن سلامة لغتهم، وصفاء سليقتهم وذلاقة ألسنتهم كل أولئك كان يغنيهم عن الشكل. ولكن حين دخلت الإسلام أمم جديدة؛ منهم العجم الذين لا يعرفون العربية، بدأت العجمة تحيف على لغة القرآن. بل قيل إن أبا الأسود الدؤلي سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى:{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}. فقرأها بجر اللام من كلمة ٠ رسوله). فأفزع هذا اللحنُ الشنيع أبا الأسود وقال: عزَّ وجه الله أن يبرأ