إنّ الجولةَ التي قُمنا بها عبرَ شيوخ ابن عبد الملك وأصحابِه وتلاميذه ووظائفِه تقودُنا إلى الحديث عن ثقافته ومعارفه وعلومه، لقد عاشَ ابن عبد الملك في قرن يُمكنُ نعْتُه بأنه أكثرُ القرون في المغرب ازدهارًا بالعلوم والآدابِ والفنون، وعاش في مَرّاكُش حاضِرة الغرب الإِسلاميِّ التي تجمّع فيها على عهده تراث المشرق والمغرب، وقصَدَها أهلُ العلم من جميع أرجاءِ العالم الإِسلامي، وتوفرت له وسائلُ الطلب وأدواتُ العلم، وكان بطبعه ومنذ صِغره ذا نَهَم للمعرفة لا يشبع، وصاحبَ طموح إليها لا يقفُ عندَ حدّ من أَجل الوصول فيها إلى أقصى الغايات وأعلى الدرجات، وأعانه على تحقيق أهدافه العلميّة ما كان له من الجِدَة والجاه والشّغَف بالتحصيل، وهكذا أقبَلَ منذ نعومة أظفارِه على ينابيع المعرفة يعُبُّ وينهَلُ، وسعَى إلى كبار الشيوخ وأعلام الأساتيذ، يروي عنهم، ويلزَمُ مجالسَهم ويرحَلُ إليهم، وكان لا يفتَأُ يكتُبُ ويُقيِّد، ويقابلُ ويُعارض ما يقعُ إليه من ذخائر المؤلفات، ونفائس المصنَّفات، حتى استوَتْ له مَلَكةٌ علميّة فذّة، واستقامت عنده مشاركةٌ واسعة في كثير من أصُول العلم وفروعِه، فغدا حُجةً في علوم القرآن، خبيرًا بالقراءات التي تلقّاها عن المَهَرة فيها، محيطًا إحاطةً نادرة بما ألّف فيها، يُبدي فيها رأيه، ويُصدر حولَها حُكمَه، كقوله في ترجمة المقرئ قاسم ابن الحاجِّ الإشبيليّ:"وصنّف في السبع "البديع"، وكان كثير من الشيوخ يؤْثرونَه على معظم ما صنِّف في فنّه، وإنه لكذلك"(١).
كما كان مطّلعًا على تفاسير القرآن على اختلاف مناهجها ومذاهب أصحابها يصِفُها وَصْفَ قارئ لها مُمارس لمراجعتها، وهذا رأيه -على سبيل المثال- في "الكشّاف" للزمخشري الذي اختلف فيه أهلُ السُّنة في المغرب والمشرق، قال: "وفي الكتاب المذكور جُملةٌ كبيرة جَليّة وخَفيّة ممّا أشار إليه أبو الحُسَين رحمه الله،