للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نحوُ أربعةِ أشبار وبأعلاها جامورٌ (١) محُكَمُ الصَّنعة على نحوِ جَواميرِ الأخبية من أتقنِ ما أنت راءٍ جمالًا، وفي أعلى كلِّ رُكنٍ من أركان القُبة عُصَيّةٌ رُكِّب فيها سُنيِّنٌ مذَهَّبٌ وقد رُبِطت بها رايةُ حرير لا تزال تخفُقُ عَذَباتُها بأقلِّ ريح ولو لم يكنْ إلا بهزِّ الجَمَل إيّاها في سَيْره، ويسَمَّى جملَ المُصحف، ويتبَعُه بَغْلٌ من أفْرَهِ البِغال يحمِلُ رَبْعةً كبيرة مُربَّعةَ الشكل في ارتفاع ذراع أو نحوها، وقد غُشِّيت كذلك بحرير وضُمِّنتِ "الموطَّأ" لمالكِ وصحيحَي البخاريِّ ومسلم وسُنَنَيْ أبي داودَ والنَّسائي وجامعَ أبي عيسى الترمذي، وكان عوَامُّ ذلك الوقت يقولونَ فيه: بَغْلُ المصحف، وهو غَلَطٌ منهم، ويليه الأميرُ في صَدْرِ الجيش والعساكر عن يمينِه وشِماله وخَلْفِه -وهو الذي عبَّر عنه أوّلًا بقولِه: وَبَرَزَ الإمام، وآخِرًا بقولِه: أمام الخَلْق، وبقولِه: ولا مِن خَلْفِه. فهذه هيئةُ الترتيب، وقد شاهدتُه مرّاتٍ في بروز المُعتضِد والمرتضَى المذكورينِ وأبي العلاء إدريسَ بن أبي عبد الله بن محمد بن أبي حَفْص عُمرَ بن عبد المؤمن آخِرِ أُمرائهمُ المعتَبرينَ عندَهم، وبقَتْلِه على يدِ الأمير أبي يوسفَ يعقوبَ بن عبد الحقِّ الزَّنَاتيِّ المَرِينيِّ انقَرَضَت دولةُ بني عبد المؤمن، فسبحانَ مَن لا يَبِيدُ مُلكُه ولا يفنَى سُلطانُه جَلّ جَلالُه وتعاظَمَ شأنُه. وكأنّ لسانَ حال هذه الهيئة يقولُ: إنّ هذه الرايةَ مُنذِرةٌ بإطلالِ صاحبِها على مقصودِه، وأنه داعٍ إلى ما يقتضيه الكتابُ والسُّنة، فمَن أطاعَه كان مُسلمًا له ومن عَصَاه حارَبَه بهذا الجيش الذي هو من حِزبِه.

قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: قد أطَلْنا في هذا الفصل إطالةً أخرجَتْنا عن المقصود، ولكنّا أودَعْناه فوائدَ منوَّعةً يعِزُّ وجودُها، وقد آنَ لنا أن نرجعَ إلى ذكْرِ أبي المُطرِّف ابن عَمِيرةَ، فنقول: وله فصولٌ وَعْظيّةٌ (٢) على طريقةِ الإمام أبي الفَرَج ابن الجَوْزيِّ، منها قولُه: إذا عَرَجت شياطينُ الهوى إلى سماءِ العقل وجدتَها


(١) الجامور: الرأس، والمراد هنا رأس القبة.
(٢) راجع تحليلاً لمواعظ ابن عميرة في كتاب الدكتور محمد بن شريفة: أبو المطرف أحمد ابن عميرة المخزومي (٢٩٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>