للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما عن قِلًى صُرفت إليكَ وإنّما ... صَيْدُ الغزالةِ لم يُبَحْ للمُحرِمِ

رَيْحانةٌ كلُّ المنَى في شمِّها ... لولا المهيمنُ واتقاءُ المَحرمِ

يا ويْحَ عنترةٍ يقول وشَفَّه ... ما شَفَّني جهرًا ولم يتكلمِ:

(يا شاةُ ما قنص لمَن حلَّتْ لهُ .... حَرُمت عليّ وليتَها لم تَحرُمِ)

وكلامُ أبي حفص نظما ونثرًا في جميع الفنونِ مسبوكٌ مخلَّص نبيلُ الأغراض، وله في معاني الزُّهدِ والمواعِظ وما نَحَا تلك المناحيَ قِطَعُ نظمٍ رائقة، وفصولُ نثر فائقه، منها قولُه:

الدنيا، حَفِظَك الله، كما قد عَلِمت، فأعرِضْ بحِلمِكَ عن جهلِها، وارغَبْ بنفسِك عن أهلِها، واذكُرْ قبيحَ أنبائها، واصرِف حبالَ أبنائها، ولا ترتَع في رَوْضِهم، ولا تكرَع في حوضِهم، وقلِ: الله، ثم ذَرهم في خَوْضِهم (١)، وإذا مرَرْتَ باللاغينَ في ذكْرِ محاسنِها، اللاهينَ بحُسن ظاهرِها عن قُبْح باطنِها، فالهُ عن لهوهم، ومُرَّ كريمًا بلغوهم، مَرَّ المهتدي في سَيْرِه، وأعرِضْ عنهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيرِه (٢)، فالسِّيادةُ والسّعادةُ في نَبْذِها، لا في أخذِها، وفي تركِها، لا في دَرْكِها، فإليكَ عن وَضلِها إليك، وعليكَ بهَجْرِها عليك، واتلُ قولَه تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ} [طه: ١٣١] , وقولَه تعالى: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: ٢٨] , واحرِصْ أن تكونَ منهم، [فزُخرُف الدُّنيا في نَظَر] العينِ زَيْن، وفي نظرِ العقل شَيْن؛ فغمِّضْ عينَيكَ تبصِر، [ولا تَمُدَّهما وأقصِرْ] , جَعَلَنا اللهُ ممن نظَرَ بقلبه، وأبصَرَ بلُبِّه، فأولو الألباب والفِكَر، [هم] المخصُوصونَ بالذِّكْر في الذِّكَر، والعلمُ أرفَعُ المزايا، وأوسعُ العطاياَ، [وهو غايةُ المنالِ والمَدْرَك] مَن نالَه أيُّ شيءٍ فاته؟! ومن فاتَهُ أيَّ شيءٍ أدرك؟ [ولا علمَ إلا علمُ] الكتاب والسُّنة، هما أفضلُ العطايا والمِنّة، فمَن عَلِمَهما ونظَرَ فيهما [وعَمِل بهما] , نالَ غايةَ السعادة، وأدرَكَ منتهى السِّيادة، قال اللهُ


(١) اقتباس من الآية ٩١ من سورة الأنعام: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}.
(٢) اقتباس من الآية ٦٨ من سورة الأنعام: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.

<<  <  ج: ص:  >  >>