للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محبوب؛ وأمّا سؤالُكم -حفِظَكم الله- كيف أنا بعدَكم، وهل وجَدتُ في فُرقةِ الوطنِ والأحبّة وَجْدَكم، فلم تشكُّوا أنّي متحمِّلُ من ذلك ضِعفَيْن، ومُفارِقٌ دونَ الأبوَيْنِ والبنينَ إلفَيْن، أمّا غَرْناطيُّها فقد سَنَّى اللهُ به الاجتماع، وأسألُه تعالى أن لا يجعَلَ موقِفًا منه الوداع، وأمّا إشبيلِيُّها فإنّي أحاولُ انتظامَ الشَّمل به وأَرومُه، وأرجو أن يتكيَّفَ بفضل الله على قربٍ قدومُه، وأمّا استعلامُكم قولي في الحبِّ وأطوارِه، واستفهامُكم عن رأيي في الشوق ومَثارِه، [١٠٩ و] وأنّ الشُّعراءَ تنازَعَتْ هذا المعنى فكلٌّ شرَّقَ بغرامِه، ونَطَقَ عن مقامِه، وأخبَرَ عن ذَوْقه، وعبَّرَ عن ما رجَحَ نَأْيًا أو خَفَّ قُربًا من شوقِه، والأشواقُ بحار، والخواطرُ فيها تَحار، وأجرى الأقوالِ عندي في ذلك معَ القَصْد (١) [الطويل]:

بكلٍّ تداوَيْنا فلم يُشْفَ ما بنا ... على أنَّ قُربَ الدارِ خيرٌ من البُعدِ

وأمّا سؤالُكم عن رأي في المقام بهذه البُقعة، فسأورِدُ الجوابَ عليكم بما يقفُ عليه العَزْمُ في هذه الرُّقعة، واختياري على الجُملة أن آخُذَ عند لَحاقِ الجُملة الإشبيليّة في الرِّحلة ثم لا أدري ما تجيءُ به الأقدار، وربُّك يَخلقُ ما يشاءُ ويختار؛ وأمّا قِطعتُكمُ التي أجَدتُم بأَزمُّورَ تأسيسَها، وأفدتُم مُنعِّمين نفيسَها، فكنتُ وإن لم أدرِكْ شَأْوَها، فقد حَذَوْتُ في الجوابِ حَذْوَهَا، وعلَّقتُه بمقلوبِها، وإن قَصَّر عن أسلوبِها، وكان من أمَلي أن أُجَدِّدَ معَكم في رِباط الفتح عهدًا بالقُرب، وقدَّرتُ أنْ يُتاحَ هنالكم تلاقي السَّفينِ والرَّكْب، فأخْلَفَ التقدير، وأعجَلَ عن اللَّحاق المَسِير، وضاعتِ الرُّقعةُ أثناءَ شواغلِ الأسفار وشغوبِها، وذَهَلتْ عنها النفْسُ بما مسَّها من لُغوبِها، وشاهدي في صدق هذه الدعوى والتي قَبلَها، عِلمُ هذه الوِزارة العَلِيّة التي أفاضَت فضلَها (٢)، وأعجَزَت الزّمانَ أن يُوجِدَ مثلَها، فكلُّ هذا كان منها بمرأًى ومَسْمع، وبمحضرٍ من عِيانِها ومطلَع،


(١) البيت ليزيد بن الطثرية (الأغاني ٥/ ٢١٣).
(٢) "فضلها": سقطت من م ط.

<<  <  ج: ص:  >  >>