للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

- وقد ضعف ابن رشد (١) هذا القياس بأنه لو صح الحكم على الغائب استدلالًا بحال الشاهد، لما احتيج إلى إثبات حدوث الأجسام بطريق الأعراض، إذ المشاهد من الأجسام بين الحدوث، ولكان إثبات حدوث ما غاب عنا منها بقياسه على المشاهد أصح، ولأمكن الاستغناء عن الاستدلال بحدوث الأعراض، والصحيح أنه لا يصح الاستناد إليه إلا عند التيقن من استواء طبيعة الشاهد بالغائب، يقول: "فتؤول أدلتهم على حدوث. جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب، وهو دليل خطابى إلا حيث النقلة معقولة بنفسها، وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب" (٢)

- وأما الحكم على ما لا يخلو من الحوادث بالحدوث، فهو العمدة في إثبات حدوث العالم، والأصل الذي أعتمد عليه أهل الكلام في ترجيح تأويلاتهم المبتدعة، حيث نزهوا الله تعالى عن حلول الحوادث فيه، فنفوا بذلك الكثير من الصفات المثبتة في القرآن والسنة.

وللسلف الصالح - رضوان الله تعالى عليهم - توجيهات لهذا الأصل، حيث يعد من الأمور المشبهة التي تشتمل على حق وباطل، لذلك احتاج الكلام فيه إلى تفصيل وإيضاح؛ ليستبن المراد منه فيؤخذ بذلك الحكم الذي يناسبه.

فقد يراد بما لا يخلو من الحوادث: أنه لا يخلو من حادث بعينه، فهذا معلوم ببداهة العقول أنه حادث مثله.

وبيانه أن ما لا يخلو من الحوادث لا يمكن له سبقها؛ لأنه إن كان سابقًا لها كان


(١) هو محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكى أبو الوليد، فقيه أصولى، اشتغل بالفلسفة وحاول التلفيق بينها ولبين الشريعة حتى كان ذلك سببًا لتكفير العلماء له واتهامهم له بالزندقة، له عدد من المصنفات في الفقه والأصول وعلم الكلام والفلسفة، توفى بقرطبة في ذى القعدة سنة: ٥٢٠. انظر: شذرات الذهب: (٤/ ٦٢) وشجرة النور الزكية: ١٢٩، ومعجم المؤلفين: (٧/ ٢٢٨).
(٢) الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد: ١٠٩. وتجدر هنا الإشارة إلى أن طعن ابن رشد في منهج قياس الغائب على الشاهد في إثبات حدوث الأجسام الفلكية باطل، لأنه قد ثبت بالبرهان استواء طبيعة سائر الأجسام في كونها حادثة، وسيأتي تفصيل ذلك.

<<  <   >  >>