أنه سمع هذا الحديث من رافع أولًا فرواه عنه، ثم سمعه من النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فرواه عنه) انتهى.
قلت: وعلى فرض كونه أسقط رافعًا (١)؛ فهو مرسل، وهو حجة عندنا والجمهور، لكن الظاهر أنه رواه مرتين كما قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.
ومنهم: بلال رضي الله عنه، روى حديثه البزار في «مسنده» نحو حديث رافع، ومنهم: قتادة بن النعمان، روى حديثه الطبراني في «معجمه» من حديث عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان، عن أبيه، عن جده مرفوعًا نحوه، ورواه البزار أيضًا، ومنهم: ابن مسعود رضي الله عنه، روى حديثه الطبراني أيضًا عنه مرفوعًا نحوه، ومنهم: أبو هريرة رضي الله عنه، روى حديثه ابن حبان عنه مرفوعًا نحوه، ومنهم رجال من الأنصار أخرج حديثهم النسائي من حديث محمود بن لبيد عن رجال من قومه من الأنصار: أن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أسفروا بالصبح؛ فإنه أعظم للأجر»، ومنهم أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنه، أخرج حديثهما الطبراني من حديث حفص بن سليمان عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تزال أمتي على الفطرة ما أسفروا بالفجر»، ومنهم: أبو الدرداء رضي الله عنه، أخرج حديثه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبيد من حديث أبي الزاهرية، عن أبي الدرداء، عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أسفروا بالفجر تفقهوا»، ومنهم: حواء الأنصارية، أخرج حديثها الطبراني من حديث أبي بجيد الحارثي عن جدته حواء الأنصارية، وكانت من المبايعات، قالت: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر»، وابن بُجَيْد؛ بضم الموحدة، وفتح الجيم، بعدها تحتية ساكنة، ذكره ابن حبان في «الثقات»، وجدته حواء بنت زيد بن السكن، أخت أسماء بنت زيد بن السكن.
فإن قلت: كان ينبغي أن يكون الإسفار واجبًا لمقتضى الأوامر فيه.
قلت: الأمر إنَّما يدل على الوجوب إذا كان مطلقًا مجردًا عن القرائن الصارفة له إلى غيره، وهذه الأوامر ليست كذلك، فلا يدل إلا على الاستحباب.
فإن قلت: قد يؤول (الإسفار) في هذه الأحاديث بظهور الفجر، وقد قال الترمذي: وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق: معنى الإسفار: أن يصبح الفجر، ولم يشك فيه، ولم يروا أن الإسفار تأخير الصلاة.
قلت: هذا التأويل غير صحيح، فإن الغلس الذي يقولون به: هو اختلاط ظلام الليل بنور النهار، كما ذكره أهل اللغة، وقيل: ظهور الفجر، ولا تصح صلاة الصبح، فثبت أن المراد بالإسفار: إنَّما هو التنوير، وهو التأخير عن الغلس، وزوال الظلمة، وأيضًا فقوله عليه السَّلام: «أعظم للأجر» : يقتضي حصول الأجر في الصلاة بالغلس، فلو كان الإسفار هو وضوح الفجر وظهوره؛ لم يكن في وقت الغلس أجر لخروجه عن الوقت.
وأيضًا يبطل تأويلهم ذلك ما رواه ابن أبي شيبة، وإسحاق ابن راهويه، وأبو داود الطيالسي في «مسانيدهم»، والطبراني في «معجمه» من حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لبلال: «يا بلال؛ نور صلاة الصبح حتى يبصر القوم مواقع ليلهم من الإسفار».
وأيضًا يبطل تأويلهم ذلك ما رواه الإمام أبو محمد القاسم بن ثابت السرقسطي في كتاب «غريب الحديث» من حديث أبي سعيد بيان قال: سمعت أنس بن مالك يقول: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي الصبح حين يفسح البصر) انتهى.
يقال: فسح البصر وانفسح؛ إذا رأى الشيء عن بعد؛ يعني به: إسفار الصبح.
فإن قلت: قيل: إن الأمر بالإسفار إنَّما جاء في الليالي المقمرة؛ لأنَّ الصبح لا يتبين فيها جدًّا، فأمرهم بزيادة التبيين؛ استظهارًا باليقين في الصلاة.
قلت: هذا تخصيص بلا مخصص، وهو باطل، ويرده أيضًا ما أخرجه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: (ما اجتمع أصحاب محمد صلَّى الله عليه وسلَّم على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر)، وأخرجه الحافظ الطحاوي أيضًا في «معاني الآثار» بسند صحيح، ثم قال: (ولا يصح أن يجتمعوا على خلاف ما كان رسول الله عليه السَّلام عليه).
فإن قلت: قد زعم ابن حزم أن خبر الأمر بالإسفار صحيح، إلا أنه لا حجة فيه للحنفية إذا أضيف إلى الثابت من فعله عليه السَّلام في التغليس حتى إنه لينصرف والنساء لا يعرفن.
قلت: الثابت من فعله عليه السَّلام في التغليس لا يدل على الأفضلية؛ لأنَّه يجوز أن يكون غيره أفضل منه، وإنما فعل ذلك للتوسعة على أمته، بخلاف الخبر الذي فيه الأمر؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: «أعظم للأجر» : أفعل التفضيل، فيقتضي أجرين؛ أحدهما: أكمل من الآخر؛ لأنَّ صيغة (أفعل) تقتضي المشاركة في الأصل مع رجحان أحد الطرفين، فحينئذٍ يقتضي هذا الكلام حصول الأجر في الصلاة بالغلس، ولكن حصوله في الإسفار أعظم وأكمل منه، فلو كان الإسفار لأجل تقصي طلوع الفجر؛ لم يكن في وقت الغلس أجر لخروجه عن الوقت، انتهى.
قلت: وما زعمه ابن حزم تناقض؛ لأنَّه قال: (خبر الأمر بالإسفار صحيح إلا أنه لا حجة فيه...) إلى آخره، وما هذا إلا تناقض، فإن قوله: (خبر الأمر بالإسفار صحيح) وهو كذلك، ويلزم منه أن يكون حجة للحنفية؛ لأنَّهم يقولون: إن الأفضل في صلاة الفجر الإسفار، وقد صح الحديث به، فهو حجة لهم.
وقوله: (إلا أنه لا حجة فيه...) إلى آخره: ممنوع، فإنه متى صح الأمر؛ يكون حجة لمن قال بذلك، وقوله: (إذا أضيف...) إلى آخره: ممنوع، فإنه قد ثبت ذلك في بعض الأحيان وهو لا يقاوم ما كان عادة للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، يدل عليه ما أخرجه الحافظ أبو جعفر الطحاوي من حديث إبراهيم النخعي قال: (ما اجتمع أصحاب محمد صلَّى الله عليه وسلَّم على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر)، وسنده صحيح، فهذا يدل على أن عادتهم في صلاة الفجر الإسفار.
ولا ريب أن ذلك هو ما فعله النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّهم أشد اتباعًا له عليه السَّلام، فثبت أن التغليس إنَّما كان في بعض الأحيان، وهو محمول على بيان الجواز لأجل التشريع، وثبت أن الأفضل في صلاة الصبح الإسفار، وأنه الثابت من فعله عليه السَّلام على الدوام
(١) في الأصل: (رافع)، ولعل المثبت هو الصواب.