نشرع فيه جميعًا.
قال في «عمدة القاري» : (ولفظ «جميعًا» يؤكد به، يقال: جاؤوا جميعًا؛ أي: كلهم، ومثله في «شرح الكرماني»، واعترضه البرماوي، فقال: «إنَّه وهم»، واختار أنَّها حال؛ أي: نغرف منه حال كوننا جميعًا، قال: والجمع ضد التفريق، ويحتمل هنا أن يراد جميع المغروف، أو جميع الغارفين) انتهى.
قلت: وهذا ليس بوهم كما زعم، فقد عدها جمال الدين بن مالك من ألفاظ التوكيد، قال: وأغفلها النحويون، وقد نبه سيبويه على أنَّها بمنزلة «كل» معنًى واستعمالًا، ولم يذكروا شاهدًا من كلام العرب، وقد ظفرت بشاهد لها، وهو قول امرأة من العرب ترقص ابنًا لها، فتقول:
فداك حي خولان... جميعهم وهمدان
وهكذا قحطان... والأكرمون عدنان
فالغافل الواهم هو هذا القائل فإنَّه لم يطلع على ما ذكره إمام الصنعة؛ فافهم.
وقال ابن فرحون: و «جميعًا» يرادف «كلًّا» في العموم، ولا يفيد الاجتماع في الزمان بخلاف «معًا»؛ يعني: أنَّها تفيد الاجتماع في الفعل، فإنَّ هنا الفرق على التعاقب من الإدخال في الإناء والإخراج منه؛ فليحفظ.
وفي الحديث: تعاهد بشرة البدن، وما يمكن غسله بلا حرج، ثم إفاضة الماء عليه ليكون أبعد عن الإسراف، وليصل الماء إلى نفس الجسد خصوصًا في الشتاء، فإنَّ البدن لا يجري عليه الماء إلا بعد تعاهده، والحديث تقدم مع فوائده، والله تعالى أعلم.
(١٦) [باب من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده]
هذا (باب) حكم (مَن توضأ في) الاغتسال من (الجنابة) فلفظ (في) بمعنى: (من)، كما في نسخة، (ثم غسل سائر) أي: باقي (جسده ولم يُعد)؛ بضمِّ التحتية، من الإعادة (غسل مواضع الوضوء) زاد في رواية أبي ذر: (منه)؛ أي: من الجسد، وفي رواية الباقين ليست بموجودة، ووجودها أظهر (مرة أخرى)؛ لأنَّ الوضوء مشتمل على المضمضة، والاستنشاق، وغسل الأعضاء، وبالغسل قد ارتفع الحدث عنها وإن كان سنة؛ لأنَّ السنة تنوب عن الفرض؛ فليحفظ.
[حديث ميمونة: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءًا لجنابة فأكفأ بيمينه]
٢٧٤ - وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا يوسف بن عيسى) : هو ابن يعقوب المروزي المتوفى سنة تسع وأربعين ومئتين (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (الفَضْل)؛ بفتح الفاء، وسكون الضاد المعجمة (بن موسى) : هو أبو عبد الله السيناني نسبة إلى سِيْنان -بكسر السين المهملة، وسكون التحتية، وبنونين بينهما ألف-: قرية من قرى مرو خراسان، المتوفى سنة إحدى وتسعين ومئة (قال: أخبرنا الأعمش) : هو سليمان بن مهران، (عن سالم) : هو ابن أبي الجعد رافع الكوفي، (عن كُريْب مولى ابن عباس)؛ بضمِّ الكاف، وسكون التحتية، (عن ابن عباس) : هو عبد الله رضي الله عنهما، (عن) خالته (ميمونة) : أم المؤمنين بنت الحارث رضي الله عنها (قالت: وَضع)؛ بفتح الواو على البناء للمعلوم (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع فاعله (وَضوءَالجنابة)؛ بالإضافة للأكثرين، والنصب على المفعولية، وبلام واحدة، وفي رواية: (وَضوءًا للجنابة)؛ بلامين، بفتح الواو، والتنوين، والنصب على المفعولية، وفي رواية أخرى: (وضوءًالجنابة)؛ بلام واحدة، والنصب، والتنوين، وفي رواية أخرى: (وُضِعَ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بضمِّ الواو على البناء للمجهول؛ أي: لأجله، و (وضوءٌ) بالرفع والتنوين نائب عن الفاعل.
قال الكرماني: (الوَضوء؛ بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به لا الذي يغتسل به، فكيف قال: وَضوء الجنابة؟
وأجاب: بأنَّه أراد مطلق الماء الذي يتطهر به مجازًا مرسلًا من إطلاق المقيد على المطلق؛ كضده، وهو تقييد المطلق؛ كإطلاق الرسن على أنف الإنسان) انتهى.
وقال البرماوي: أضافه إلى (الجنابة)؛ لأنَّه صار اسمًا له ولو استعمل في غير الوضوء.
وقال ابن فرحون: (وَضوء الجنابة) يقع على الماء والإناء، فإن كان الموضوع الماء؛ فهو على تقدير وضع الماء في تورٍ أو نحوه، وإن كان الإناء؛ فهو موضوع حقيقة، وأضيف إلى (الجنابة) إضافة تخصيص؛ لأنَّه معدٌّ لغسلها) انتهى.
قلت: ولما كان الـ (وَضوء)؛ بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به، وغُسل الجنابة مشتمل على الوضوء والاغتسال؛ فأطلق عليه (وَضوء الجنابة) من إطلاق البعض وإرادة الكل، وأضافه إليها؛ لأنَّه يفعل لأجلها؛ فتأمل.
(فأكفأ)؛ بالهمزة أوله وآخره رواية الأكثرين، ولأبي ذر: (فكفأ)؛ بالهمزة آخره؛ ومعناه: قلب الإناء (بيمينه على يساره) كذا هو للأكثرين، ولكريمة (على شماله) بدل (على يساره)، (مرتين أو ثلاثًا) الظاهر: أنَّ الشك من ميمونة، ويحتمل غيرها، (ثم غسل فرجه) المراد به: القبل والدبر، (ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط) أي: بأن جعل الأرض أو الحائط آلة للضرب، وفي رواية الكشميهني: (ضرب بيده الأرض)، قال الكرماني: (والمعنى فيهما واحد، فيحتمل أنَّ الأولى من باب القلب؛ كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي، ويحتمل أنَّه ضمن الفعل بمعنى: فعفَّر يده بالأرض) (مرتين أو ثلاثًا) الشك من ميمونة على الأظهر، وإنَّما ضرب يده الأرض؛ لأنَّه ربما بقي على يده شيء من المني وغيره، وهو للزاجته ورائحته لا يخرج إلا بالضرب على الأرض أو الحائط، (ثم مضمض) وفي رواية: (تمضمض)؛ بزيادة فوقية، (واستنشق) فإنَّهما من سنن الوضوء، وينوبان عن فرض الاغتسال، (وغسل وجهه) أي: ولحيته، (وذراعيه)؛ أي: ساعديه مع مرفقيه، والذِّراع -بكسر الذال المعجمة- يذكر ويؤنث، وسمي ذراعًا؛ لأنَّهم في الصدر الأول كانوا يذرعون به في بيوعهم وشرائهم، (ثم أفاض) من الإفاضة؛ وهي الإسالة؛ أي: أسال (على رأسه الماء) وعلى شعره، (ثم غسل جسده)؛ أي: ما بقي من جسده، (ثم تَنَحَّى)؛ بالفوقية، والنون، والحاء المهملة المفتوحات؛ أي: تباعد عن مكانه إلى مكان آخر، (فغسل رجليه) تحرُّزًا عن الماء المستعمل؛ لأنَّهما في مجتمع الماء، وهو مستعمل، (قالت)؛ أي: ميمونة، ووقع في رواية الأَصيلي: (عائشة)، قال في «عمدة القاري» : (وهو غلط ظاهر)، وتبعه جميع الشراح إلا أن العجلوني زعم أنَّه لا مانع من كون عائشة كانت حاضرة الاغتسال، فأتته بخرقة، فردها.
قلت: بل المانع ظاهر، فإنَّ هذا الاغتسال كان في بيت ميمونة؛ لأنَّ ذاك الوقت كان نوبتها، واحتمال حضور عائشة عندها بعيد؛ لأنَّ أحد الزوجات لا تأتي إلى عند الأخرى يوم نوبتها على أنَّه عليه السلام كان كثير الحياء، فلا يمكن أن يغتسل عند ميمونة بحضور عائشة خوفًا من الغيرة؛ فليحفظ.
(فأتيته بخِرقة)؛ بكسر الخاء المعجمة؛ أي: ليتنشف بها، (فلم يُرِدْها)؛ بضمِّ التحتية، وكسر الراء، وسكون الدال المهملة، من الإرادة، وما وقع لأبي السكن من تشديد الدال من الرد، فوهَّمه فيه صاحب «المطالع» وغيره، كما قدمناه، ويدل له الرواية الآتية: (فلم يأخذها)، (فجعل) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (ينفض بيده)، وفي رواية للأَصيلي: بحذف الباء الموحدة، وفي رواية أبي ذر: (فجعل لينفض الماء بيده)؛ ففيه: دليل على أنَّ نفض اليد بعد الوضوء والغسل لا بأس به، قال في «منهل الطلاب» : واختلفوا فيه، ففي «معراج الدراية» : أنَّه لا بأس به، ومثله في «التاترخانية»، وفيها: أنَّه مكروه، والمعتمد إن كان من التضجر؛ فمكروه، وإن كان لأجل سرعة نزول الماء عنه؛ فلا بأس به؛ لأنَّه لم يثبت في النهي عنه شيء أصلًا، ومشى في «الدر المختار» : على أنَّه مكروه؛ أي: لأنَّ فيه إظهار التضجر من العبادة، وفيه: دليل على كراهية التمسح بالخرقة، وقد سبق أنَّه عليه السلام كانت له خرقة للوضوء، فلعله رأى هنا في الخرقة وسخًا أو غبارًا أو غير ذلك؛ لأنَّ الصحيح أنه لا بأس بالتمسح بالمنديل للمتوضئ والمغتسل إلا أنه لا يبالغ ويستقصي، فيبقى أثر الماء على أعضائه؛ لأنَّه أثر العبادة؛ فافهم.