وفي الحديث: دليل على أنَّ المغتسل إذا توضأ أولًا ثم اغتسل؛ لم يجب عليه إعادة المضمضة والاستنشاق؛ لأنَّ فعلهما في الوضوء كافٍ عن فعلهما في الغسل، فالسنة نابت مناب الفرض، وهو ظاهر، وقال ابن بطال: أجمعوا على أنَّ الوضوء ليس بواجب في الغسل من الجنابة، ولمَّا ناب غسل مواضع الوضوء وهو سنة في الجنابة عن غسلها وهو فريضة في الجنابة؛ صح بذلك ما روي عن مالك: (أنَّ غسل الجمعة يجزئ عن غسل الجنابة)، وفي الحديث حجة؛ لقول مالك في رجل توضأ للظهر وصلى، ثم جدد الوضوء للعصر، فلما صلى العصر؛ تذكر أنَّ الوضوء الأول انتقض؛ قال: (إنَّ صلاته تجزئه؛ لأنَّ الوضوء للسنة تجزئ به صلاة الفرض)، وكان الحديث السابق وهو ما فيه: (ثم غسل سائر جسده) أولى بهذه الترجمة، وهو مبين لرواية من روى: (ثم أفاض على جسده) أنَّ المراد بذلك ما بقي من الجسد دون أعضاء الوضوء. انتهى.
واعترضه الكرماني فقال: (ليس في الحديث ما يدل على أنَّ السنة نابت عن الفرض؛ إذ ليس فيه أن غسل الوجه والذراعين كان للوضوء أو للسنة، بل كان لغسل الجنابة، فلا يصح قول مالك في نيابة غسل الجمعة عن غسل الجنابة، ولا يكون له حجة في إجزاء الصَّلاة بالوضوء التجديدي، بل ليس فيه أنه لم يعد غسل مواضع الوضوء؛ إذ لفظ (جسده) في (ثم غسل جسده) شامل لتمام البدن؛ أعضاء الوضوء وغيرها، وكذا حكم الحديث السابق إذ المراد بـ (سائر جسده)؛ أي: باقي جسده غير الرأس لا غير أعضاء الوضوء) انتهى.
قلت: وهذا مردود، فإن قوله: (ليس في الحديث...) إلخ ممنوع، بل فيه دليل على أنَّ السنة نابت عن الفرض؛ لأنَّ غسل الوجه والذراعين ومسح الرأس إنَّما هذا هو الوضوء المسنون، فغسل هؤلاء الأعضاء سنة، وهي نابت عن غسلها المفروض في الجنابة، ألا ترى لو انغمس الجنب بعد أن تمضمض واستنشق في الماء ومكث فيه مقدار الوضوء والغسل؛ فقد ارتفع عنه الحدثان، وأكمل السنة، وكذا لو انغمس في الماء الجاري ولم يمكث؛ فإنَّه قد ارتفع الحدثان عنه، وأكمل السنة، فإنَّه في هذه الصورة لم يتوضأ، فلو كان الوضوء في الجنابة غير سنة؛ لم يصح هذا الغسل مع أنَّه لم يسع أحد أن يقول بعدم صحته، فثبت أنَّ هذا الوضوء المسنون ناب عن الفرض، كما لا يخفى، وصح قول من يقول: إنَّ غسل الجمعة ناب عن غسل الجنابة، ويحصل به السنة.
وقوله: (ولا يكون له حجة...) إلخ؛ ممنوع أيضًا، فإنَّ وضوءه المجدد للعصر قد وقع قصدًا لصلاة العصر، وقد ارتفع الحدث عنه: أن لو كان محدثًا قبل تذكره فبعد تذكره؛ لا يبطل ما فعله؛ لأنَّ الوضوء الأول قد أدى به صلاة الظهر، وعلى زعمه أنَّه متوضئ فتوضأ لأجل صلاة العصر؛ فلا يسع أحد أن يقول بعدم صحة صلاته هذه؛ لأنَّ الوضوء نفسه فرض، والفعل وهو التجديد سنة، فهي نابت عن الفرض، كما لا يخفى.
وقوله: (بل ليس فيه...) إلخ ممنوع أيضًا؛ فإنَّ صريح قوله: (ثم غسل سائر جسده) أنَّه لم يعد غسل مواضع الوضوء؛ لأنَّ (سائر) بمعنى: باقي، والجسد اسم لجميع البدن؛ الرأس وما نزل عنه، فلما غسل أعضاء الوضوء؛ اكتفى بها، ثم غسل باقي جسده، وترك اليدين، والوجه، والرأس فلم يغسلهما، فإنه لو غسلها؛ يصير إسرافًا، وقد نهى عنه عليه السلام، ولأنَّه قد ارتفع الحدث عنها؛ فصار غسلها ثابتًا عبثًا محضًا.
وقوله: (وكذا الحكم...) إلخ ممنوع أيضًا، فإن الحديث السابق يدل صريحًا على ما قلناه؛ لأنَّ (سائر) بمعنى: باقي، كما اعترف به، وهو قد غسل الوجه والذراعين، ومسح الرأس، فلا ريب أنَّه لم يعد غسلها.
وقوله: (غير الرأس...) إلخ ممنوع، فإن صريح الحديث يعطي أنَّه لم يعد غسل جميع الأعضاء، فتخصيصه الرأس ترجيح بلا مرجح، ومحاولة بادرة؛ لأنَّه لا دليل يدل عليه؛ فافهم.
وأمَّا تأخيره غسل الرجلين؛ فلأنَّها في مستنقع الماء المجتمع من الغسالة، فلو غسلهما أولًا تتميمًا للوضوء؛ يلزمه أن يغسلهما ثانيًا؛ لاجتماع الماء عليهما، ولا فائدة في الغسل الأول؛ لأنَّه إسراف محض، أو إنَّما أخر غسلهما؛ تحرُّزًا عن الماء المستعمل، أو حتى يكون البدء والختم بأعضاء الوضوء، وبما قررناه ظهر وجه مطابقة الحديث للترجمة؛ فتأمل مع ما يأتي.
واعترض ابن حجر على كلام ابن بطال السابق فزعم أنَّ الاستنباط المذكور مبني عنده على أنَّ الوضوء الواقع في غسل الجنابة سنة، وأجزأ مع ذلك عن غسل الأعضاء بعده، وهي دعوى مردودة؛ لأنَّ ذلك يختلف باختلاف النية، فمن نوى غسل الجنابة وقدم أعضاء الوضوء لفضيلته؛ قد تم غسله، وإلا؛ فلا، فلم يصح البناء المذكور.
قلت: واعتراضه مردود عليه، فإنَّ قوله: (إنَّ الاستنباط المذكور...) إلخ مراده: رد ذلك، ولا يسعه ذلك، فإنَّ الإجماع قائم على أنَّ الوضوء في غسل الجنابة سنة، وأنَّها تجزئ مع ذلك عن غسل الأعضاء بعده.
فقوله: (وهي دعوى...) إلخ ممنوع؛ لأنَّه إذا كان مراده أنَّ الوضوء ليس سنة؛ مردود للإجماع على ذلك، وقد صرح هو نفسه بذلك في باب (المضمضة والاستنشاق)، فكلامه متناقض، فإنَّ الفرض لا يتكرر، ولما غسل أعضاء الوضوء وإن كان الوضوء سنة؛ لكنه لما لم يُعِد غسلها واقتصر على غسل الباقي من الجسد؛ اتصف غسل هذه الأعضاء بالفرضية.
وقوله: (لأنَّ ذلك...) إلخ ممنوع، فإنَّ محل النية في الوضوء عند غسل الوجه، وفي الاغتسال عند الإفاضة، فمن أراد الاغتسال ينوي أولًا وضوء الجنابة، ثم ينوي بعده الاغتسال من الجنابة، ولا يلزمه أن ينوي من أول الأمر غسل الجنابة، فلو نواها وانغمس في الماء؛ هل يسع أحد أن يقول بعدم صحة اغتساله مع أنَّه لم يتوضأ، ولا يقول ذلك جاهل.
فقوله: (فلم يصح البناء المذكور) ممنوع، بل هو صحيح؛ لأنَّه مبني على الإجماع وهو حجة من حجج الشرع؛ فافهم والله أعلم.
وقال إمام الشارحين في «عمدة القاري» : (اختلف الشراح في وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة، فقال ابن بطال: حديث عائشة الذي في الباب قبله أليق في الترجمة؛ لأنَّ فيه: «ثم غسل سائر جسده»، وأمَّا حديث الباب؛ ففيه: «ثم غسل جسده» فدخل في عمومه مواضع الوضوء، فلا يطابق قوله: «ولم يُعِد غسل مواضع الوضوء»).
وأجاب ابن المُنيِّر: (بأنَّ قرينة الحال والعرف من سياق الكلام تخص أعضاء الوضوء، وذكر الجسد بعد ذكر الأعضاء المعينة يفهم عرفًا بقية الجسد لا جملته؛ لأنَّ الأصل عدم التكرار).
قال في «عمدة القاري» : (قلت: حاصل كلامه استخراج الترجمة بعيد لغة، ومحتمل عرفًا؛ إذ لم يذكر إعادة غسلها) انتهى؛ أي: غسل أعضاء الوضوء، فقد حصلت المطابقة بأنَّه لم يعد غسل مواضع الوضوء.
ثم قال: وأجاب ابن التين: (بأنَّ مراد البخاري أن يبيَّن أنَّ المراد بقوله في هذه الرواية: «ثم غسل جسده»؛ أي: ما بقي من جسده بدليل الرواية الأخرى).
وقال الكرماني: (إنَّ لفظ «جسده» شامل؛ لتمام البدن أعضاء الوضوء وغيره، وكذا حكم الحديث السابق إذ المراد بـ «سائر جسده»؛ أي: باقي جسده وهو غير الرأس لا غير أعضاء الوضوء).
واعترضهم ابن حجر فقال: (في كلام ابن المُنيِّر كلفة، وفي كلام ابن التين نظر؛ لأنَّ هذه القصة غير تلك القصة، وفي كلام الكرماني من لازم هذا التقدير أنَّ الحديث غير مطابق للترجمة)، ثم قال: (والذي يظهر لي أنَّ البخاري حمل قوله: «ثم غسل جسده» على المجاز؛ أي: ما بقي، ودليل ذلك قوله بعد «فغسل رجليه»؛ إذ لو كان غسل جسده محمولًا على عمومه؛ لم يحتج لغسل رجليه ثانيًا؛ لأنَّ غسلهما كان دخل