ثم موحدة، وهذه في أكثر الروايات، وفي رواية: (ما لم تيبَسا)؛ بمثناة فوقية بعدها تحتية، ثم موحدة؛ أي: الكسرتان، وفي رواية: (إلا أن تيبَسا)؛ بحرف الاستثناء، وفي رواية: (إلى أن ييبَسا)؛ بكلمة (إلى) التي للغاية، ويجوز فيه التذكير والتأنيث، أمَّا التأنيث؛ فباعتبار رجوع الضمير فيه إلى الكسرتين، وأمَّا التذكير؛ فباعتبار رجوع الضمير إلى العُود؛ لأنَّ الكسرتين عودان، والباء الموحدة مفتوحة في جميع الروايات؛ لأنَّه من باب (علم يعلم)، وفيه لغة شاذة، وهي الكسر، وكلمة (ما) : مصدرية زمانية، وأصله: لعلَّه يخفف عنهما مدة دوامهما إلى زمن اليبس، أو مدة عدم يبسهما، وذلك بسبب التبرك بأثره عليه السلام، ودعائه بالتخفيف عنهما، فكأنه عليه السلام جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدًّا لما وقعت له المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الرطب معنى ليس في اليابس، وقال النووي: (قال العلماء: هو محمول على أنه عليه السلام سأل الشفاعة لهما، فأجيبت شفاعته بالتخفيف عنهما إلى أن ييبسا)، وقال ابن الملقن: وقد حصل ما ترجَّاه في الحال، فأورقا في ساعتهما، ففرح بذلك، وقال: «رُفِعَ العذابُ عنهما بشفاعتي»، وقيل: يحتمل أنه عليه السلام يدعو لهما تلك المدة، وقيل: لأنَّهما يسبحان ما داما رطبين، وليس لليابس تسبيح، قالوا في قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: ٤٤]؛ معناه: وإن من شيء حي، ثم حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشبة ما لم تيبس، وحياة الحجر ما لم يقطع، وذهب المحققون إلى أنه على عمومه، ثم اختلفوا هل يسبح حقيقة أم فيه دلالة على الصانع، فيكون مسبحًا منزهًا بصورة حاله؟ وأهل التحقيق على أنه يسبح حقيقة، وإذا كان العقل لا يحيل جعل التمييز فيها، وجاء النص به؛ وجب المصير إليه، واستحب العلماء قراءة القرآن والأذكار عند القبر؛ لهذا الحديث؛ لأنَّه إذا كان يرجى التخفيف لتسبيح الجريدة؛ فتلاوة القرآن والذكر أولى.
فإن قلت: ما الحكمة في كونهما ما داما رطبين يمنعان العذاب بعد دعوى العموم في تسبيح كل شيء؟
قلت: يمكن أن يكون معرفة هذا كمعرفة [عدد] الزبانية في أنه تعالى هو المختص بها، كذا في «عمدة القاري».
وقال المازري: (يحتمل أن يكون أوحي إليه أن العذاب يُخَفَّفُ عنهما هذه المدة)، واعترضه القرطبي بأنه لو علم بالوحي؛ لما أتى بحرف الترجي، قال ابن حجر: (وإذا حملناها على التعليل؛ لا يرد هذا)، قلت: وهذا الحمل فاسد، فإن النحاة أجمعوا على أن معنى (لعلَّ) : الترجي، وهو مراد النبي عليه السلام؛ بدليل أن هذه الكيفية من أخذ الجريدة وغرزها ونحوه شفاعة، وهي ترجى بلا ريب، وأما التعليل؛ فإنه معنى شاذ، على أنه إنَّما يأتي بالتعليل في مقام الجزم واليقين، وهنا المقام مقام تردد بين التخفيف وعدمه؛ فافهم.
قال في «عمدة القاري» : واختلفوا في المقبورَيْن هل كانا مسلمين أو كافرين؟
فقيل: كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المديني في كتاب «الترغيب»، واحتج على ذلك بما رواه من حديث ابن لهيعة، عن أسامة بن زيد، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: «مر نبي الله عليه السلام على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة»، قال: هذا حديث حسن، وإن كان إسناده ليس بالقوي؛ لأنَّهما لو كانا مسلمين؛ لما كان لشفاعته عليه السلام لهما إلى أن ييبسا معنًى، ولكنه لما رآهما يعذبان؛ لم يستجز من عطفه ولطفه عليه السلام حرمانهما من ذلك، فشفع لهما إلى المدة المذكورة، ولما رواه الطبراني في «الأوسط» : «مر النبي عليه السلام على قبور نساء من بني النجار هلكن في الجاهلية، فسُمِعْنَ يُعَذَّبْنَ في النميمة»، قال: لم يروه عن أسامة إلا ابن لهيعة.
وقيل: كانا مسلمين، وجزم به بعضهم؛ لأنَّهما لو كانا كافرين؛ لم يَدْعُ عليه السلام لهما بتخفيف العذاب، ولا ترجاه لهما، ويقوي هذا ما في بعض طرق حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «مرَّ بقبرَيْن من قبور الأنصار جديدَيْن»، فإن تعددت الطرق وهو الأقرب لاختلاف الألفاظ؛ فلا بأس، وإن لم يتعدد؛ فهو بالمعنى المذكور؛ لأنَّ بني النجار من الأنصار، وهو لقب إسلامي لقبوا به؛ لنصرهم النبي عليه السلام، ولم يعرف بهما سَمِيٌّ في الجاهلية، ويقويه أيضًا ما في رواية مسلم: «فأجيبت بشفاعتي»، والشفاعة لا تكون إلا للمؤمن، وما في رواية أحمد المذكورة، فقال: «من دفنتم اليوم ههنا؟»، فهذا أيضًا يدل على أنهما كانا مسلمَيْن؛ لأنَّ البقيع مقبرة المسلمين، والخطاب لهم.
فإن قلت: لمَ لا يجوز أن يكونا كافرين، كما ذهب إليه أبو موسى، وكان دعاء النبي عليه السلام لهما من خصائصه كما في قصة أبي طالب؟
قلت: لو كان ذلك من خصائصه عليه السلام؛ لبينه، على أنا نقول: إن هذه القضية متعددة كما ذكرنا، فيجوز تعدد حال المقبورَيْن.
فإن قلت: ذكر البول والنميمة ينافي ذلك؛ لأنَّ الكافر وإن عُذِّبَ على أحكام الإسلام؛ فإنه يُعَذَّبُ مع ذلك على الكفر بلا خلاف.
قلت: لم يبين في حديث جابر المذكور سبب العذاب ما هو، ولا ذكر فيه الترجي لرفع العذاب، كما في حديث غيره، فظهر من ذلك صحة ما ذكرنا من تعدد الحال.
ورد بعضهم احتجاج أبي موسى بالحديث المذكور بأنه ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، وليس فيه ذكر سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة.
قلت: هذا من تخليط هذا القائل؛ لأنَّ أبا موسى لم يصرح بأنه ضعيف، بل قال: (هذا حديث حسن وإن كان إسناده ليس بقوي)، ولم يعلم هذا القائل الفرق بين الحسن والضعيف؛ لأنَّ بعضهم عد الحسن من الصحيح لا قسيمه، ولذلك يقال للحديث الواحد: إنه حسن صحيح، وقال الترمذي: الحسن: ما ليس في إسناده من اتُّهم بالكذب، وعبد الله بن لهيعة المصري لا يتهم بالكذب، على أن طائفة منهم قد صححوا حديثه ووثقوه؛ منهم: الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى انتهى كلامه رحمه الله ورضي الله.
والمراد بهذا القائل: ابن حجر العسقلاني، وهذا داء به يذكر الكلام مخبطًا من غير تحرير، وقد بين ذلك في «كشف الحجاب عن العوام» وفي «منهل العليل المطل»؛ فليحفظ.
قال الخطابي: فيه دليل على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور؛ لأنَّه إذا يرجى عن الميت التخفيف بتسبيح الشجر؛ فتلاوة القرآن العظيم أعظم رجاء وبركة.
قال في «عمدة القاري» : (قلت: اختلف الناس في هذه المسألة؛ فذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين وأصحابه والإمام أحمد ابن حنبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين إلى وصول ثواب القرآن إلى الميت؛ لما روى أبو بكر النجار في كتاب «السنن» عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مر بين المقابر، فقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} أحد عشر مرة، ثم وهب أجرها للأموات؛ أعطي من الأجر بعدد الأموات»، وفي «سننه» أيضًا عن أنس يرفعه: «من دخل المقابر، فقرأ سورة (يس)؛ خفف الله عنهم يومئذ»، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: قال رسول الله عليه السلام: «من زار قبر والديه أو أحدهما، فقرأ عنده أو عندهما (يس)؛ غفر له»، وروى أبو حفص بن شاهين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: «من قال: الحمد لله رب العالمين رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، لله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله العظمة في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، هو الملك رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله النور في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، مرة واحدة، ثم قال: اللهم اجعل ثوابها لوالدي؛ لم يبق لوالديه حق إلا أداه إليهما»، وقال الثوري: المشهور عند الشافعي وجماعة أن قراءة القرآن لا تصل إلى الميت، والأخبار المذكورة حجة عليهم، ولكن أجمع العلماء على أن الدعاء ينفعهم ويصلهم ثوابه؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: ١٠]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشهورة؛ منها: قوله عليه السلام: «اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد»، ومنها: قوله عليه السلام: «اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا»، وغير ذلك.
فإن قلت: هل يَبْلُغُه ثواب الصوم أو الصدقة أو العتق؟
قلت: روى أبو بكر النجار في كتاب «السنن» من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه سأل النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله؛