للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ينبت فيها خوص، فإن نبت؛ فهي السعفة، وعُلم من هذا أن الجريدة هي الغصن من النخل بدون الورق، كذا في «عمدة القاري».

قيل: خص الجريد بذلك؛ لأنَّه بطيء الجفاف، والآتي بالجريدة بلال رضي الله عنه، كما في مشيخة يعقوب الفسوي من حديث أبي رافع بسند ضعيف: أن بلالًا قال: كنا مع النبي عليه السلام في جنازة؛ إذ سمع شيئًا في قبر، فقال لبلال: «ائتني بجريدة خضراء...»؛ الحديث، وقيل: الآتي بها أبو بكر الصديق كما عند أحمد والطبراني.

قلت: والظاهر أن هذه القصة غير قصة الباب؛ لأنَّه صرح فيها بقبرين، وصرح في حديث بلال بقبر واحد، وسيأتي تمامه؛ فافهم.

(فكسَرها)؛ بتخفيف المهملة؛ أي: بنفسه أو أمر غيره، والظاهر الأول (كِسْرتين)؛ بكسر الكاف، وسكون المهملة، تثنية كسرة؛ وهي القطعة من الشيء المكسور، وقد تبين من رواية الأعمش أنه منصوب على الحال، وأنها كانت نصفًا، وفي رواية جرير عنه: (باثنتين)، قال النووي: الباء زائدة؛ للتأكيد، وهو منصوب على الحال، كذا في «عمدة القاري».

ثم قال: (إن في متن الحديث: «ثم دعا بجريدة، فكسرها كِسْرتين»؛ يعني: أتي بها فكسرها؛ أي: فالفاء عاطفة على مقدر، وفي حديث أبي بكرة وجابر كما رواه مسلم وأحمد والطبراني أنه الذي قطع الغصنين، فهل هذه قضية واحدة أو قضيتان؟

الجواب: أنهما قضيتان، والمغايرة بينهما من أوجه؛ الأول: أن هذه كانت في المدينة، وكان مع النبي عليه السلام جماعة، وقضية جابر كانت في السفر، وكان خرج لحاجته، فتبعه جابر وحده، الثاني: أن في هذه القضية أنه عليه السلام غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين، كما في رواية الأعمش الآتية، وفي حديث جابر: أمر عليه السلام جابرًا فقطع غصنين من شجرتين كان عليه السلام استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرًا، فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي عليه السلام جالسًا، وأن جابرًا سأله عن ذلك، فقال: «مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفعه عنهما ما دام الغصنان رطبين»، الثالث: لم يذكر في قصة جابر ما كان السبب في عذابهما، الرابع: لم يذكر فيه كلمة الترجي، فدل ذلك كله على أنهما قضيتان مختلفتان، بل روى ابن حبان في «صحيحه» عن أبي هريرة: أنه عليه السلام مر بقبر، فوقف عليه، فقال: «ائتوني بجريدتين»، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، فهذا بظاهره يدل على أنَّها قضية ثالثة، فسقط بهذا كلام من ادعى أن القضية واحدة، كما مال إليه النووي والقرطبي، انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه، ومثله في «ابن حجر».

قلت: ويؤيد هذا الظاهر حديث أبي رافع، فإن فيه: (فسمع شيئًا في قبر، فكسرها باثنتين، وترك بعضها عند رأسه، وبعضها عند رجليه)، وفي قصة الواحد: جعل نصفًا عند رأسه ونصفًا عند رجليه، وفي قصة الاثنين: جعل على كل قبر جريدة، ولا ريب أن هذه قضايا مختلفة في أحوال متعددة في أماكن متغايرة، فكل صحابي عبر بما رأى؛ فافهم، والله أعلم.

(فوضع)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (على كل قبر منهما كِسْرة)؛ بكسر الكاف؛ أي: واحدة؛ يعني: وضع كل كسرة منهما على ظهر القبر من جهة الرأس، وعلى الآخر كذلك، كما اعتيد في زماننا؛ لأنَّ كلمة (على) تفيد الاستعلاء، فالكسرة الموضوعة على كل قبر نصف، قال في «عمدة القاري» : (وفي رواية الأعمش: «فغرز»، والغرز مستلزم الوضع بدون العكس) انتهى.

والغرز بإزاء الرأس ثابت بإسناد صحيح، كما في «المصابيح»، وقول الزركشي: وفي رواية غندر: (نصفه عند رأسه، ونصفه عند رجليه)، كما ذكره صاحب «الترغيب»؛ محمول على أنَّ القبر واحد؛ لما في «صحيح ابن حبان» من حديث أبي هريرة أنَّه قال: مر عليه السلام بقبر فوقف عليه، وقال: «ائتوني بجريدتين»، فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، ثم قال: «لعلَّه يخفف عنه بعض عذاب القبر»، لا أنه في هذه القصة، فيكون القطع حينئذ أربعًا، كما زعمه العجلوني؛ لأنَّ القضايا مختلفة في القبر والقبرين، ولأن مقصود النبي عليه السلام تخفيف العذاب ما دام الجريد رطبًا، ومع شقه أربع شقق لا يستقيم رطبًا؛ لصغر جرمه، والحر حر الحجاز؛ فافهم.

(فقيل له) : وفي رواية: إسقاط لفظة: (له)؛ أي: للنبي الأعظم عليه السلام: (يا رسول الله) : وفي رواية الأعمش: (قالوا)؛ أي: الصحابة: (لم فعلت هذا؟) : الإشارة إلى وضع الجريدتين على القبرين، قال في «عمدة القاري» : (ولم يُعْلَم القائل من هو) انتهى ومثله في «ابن حجر»، قلت: وقد يقال: إن القائل له ذلك إما جابر كما في حديثه، أو بلال كما في حديثه، أو أبو بكر الصديق كما في حديثه، وكل قضية على حسبها، وهو الظاهر؛ فافهم.

(قال)؛ أي: النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (لعلَّه أنْ يخفف عنهما)؛ بضمير التثنية يعود إلى الإنسانين، و (يخفف) : مبني للمفعول، شبه (لعلَّ) بـ (عسى)، فأتى بـ (أنْ) في خبره، وهو جائز، وإن كان الأكثر حذفها، كما في قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: ٤٤]، وقال في «عمدة القاري» : (الرواية: «أن يخفف عنها» على التوحيد والتأنيث، وهو ضمير النفس، فيجوز إعادة الضميرين في «لعلَّه» و «عنها» إلى الميت باعتبار كونه إنسانًا وكونه نفسًا، ويجوز أن يكون الضمير في «لعلَّه» ضمير الشأن، وفي «عنها» للنفس، وجاز تفسير الشأن بـ «أن» وصلتها مع أنها في تقدير مصدر؛ لأنَّها في حكم جملة؛ لاشتمالها على مسند ومسند إليه، ولذلك سدت مسد مفعولي «حسب» و «عسى» في نحو: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ} [آل عمران: ١٤٢]، وفي: {عَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا} [البقرة: ٢١٦]، ويجوز على قول الأخفش أن تكون «أن» زائدة مع كونها ناصبة؛ كزيادة الباء و «من» مع كونهما جارَّتين، ومن تفسير ضمير الشأن بـ «أن» وصلتها قول عمر رضي الله عنه: «فما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت حتى ما يقلني رجلاي»، وقال الطيبي: لعلَّ الظاهر أن يكون الضمير مبهمًا يفسره ما بعده، كما في قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [المؤمنون: ٣٧]، وقال العلَّامة جار الله الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا ما يتلوه من بيانه، وأصله: إن الحياة إلا الحياة الدنيا، ثم وضع «هي» موضع الحياة؛ لأنَّ الخبر يدل عليها ويبينها (١)، ومنه: هي النفس تحمل ما حملت، والرواية بتثنية الضمير في «عنهما» لا يستدعي إلا هذا التأويل) انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه.

ثم قال: (وهل للجريد معنى يخصه في الغرز على القبر ليخفف العذاب؟

والجواب: أنه لا لمعنى يخصه، بل المقصود أن يكون ما فيه رطوبة من أي شجر كان، ولهذا أنكر الخطابي ومن تبعه وضع الجريد اليابس، وكذلك ما يفعله أكثر الناس من وضع ما فيه الرطوبة من الرياحين والبقول ونحوهما على القبور ليس بشيء، وإنما السنة الغرز.

فإن قلت: في الحديث: «فوضع على كل قبر منهما كِسرة».

قلت: في رواية الأعمش: «فغرز»، فينبغي الغرز؛ لأنَّ الوضع يوجد في الغرز بخلاف الوضع، كما قدمناه.

فإن قيل: إنه عليه السلام قد علل غرزهما على القبر بأمر معين من العذاب، ونحن لا نعلم ذلك مطلقًا.

والجواب: أنه لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا أن نترك ذلك، ألا ترى أنَّا ندعو للميت بالرحمة، ولا نعلم أنه يرحم أم لا؟

فإن قلت: وهل لأحد أن يأمر بذلك لأحد أم الشرط أن يباشره بيده؟

والجواب: ظانه لا يلزم ذلك، والدليل عليه أن بريدة [بن] الحصيب (٢) رضي الله عنه أوصى أن يوضع على قبره جريدتان، كما يأتي في هذا الكتاب).

وزعم ابن حجر أنه ليس في السياق ما يقطع أنه باشر الوضع بيده الكريمة عليه السلام، بل يحتمل أن يكون أمر به، وردَّه في «عمدة القاري» : بأن هذا كلام واهٍ جدًّا، وكيف يقول ذلك وقد صرح في الحديث: (ثم دعا بجريدتين، فكسرهما، فوضع على كل قبر منهما كسرة)؟! وهذا تصريح في أنه عليه السلام وضعه بيده الكريمة، ودعوى احتمال الأمر لغيره به بعيدة، وهذه كدعوى احتمال مجيء غلام زيد في قولك: جاء زيد، ومثل هذا الاحتمال لا يعتد به؛ فافهم، انتهى كلامه رحمه الله ورضي عنه.

(ما لم ييبَسا)؛ بمثناتين تحتيتين،


(١) في الأصل: (وبينها).
(٢) في الأصل: (الخطيب)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>