وقال القرطبي: هذا النبي هو موسى بن عمران عليه السلام، وأنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع، فكأنه جل وعلا أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها، وعندها قرية النمل فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته نملة. فدلكهن بقدمه فأهلكهن، وأحرق مسكنهن. فأراه الله تعالى الآية في ذلك عبرة لما لدغته نملة كيف أصيب الباقون بعقوبتها، يريد الله تعالى أن ينبهه على أن العقوبة من الله تعم الطائع والعاصي فتصير رحمة وطهارة وبركة على المطيع، وسوءا ونقمة وعذابا على العاصي. وعلى هذا ليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل، فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلق الله أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بضرب أو قتل على ماله من المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت للمؤمن، وسلط عليها وسلطت عليه، فإذا آذته أبيح له قتلها.
وقوله:«فهلا نملة واحدة» دليل على أن الذي يؤذي يقتل، وكل قتل كان لنفع أو دفع ضر فلا بأس به عند العلماء، ولم يخص تلك النملة التي لدغته من غيرها، لأنه ليس المراد القصاص، لأنه لو أراده لقال فهلا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: فهلا نملة، فكأن نملة تعم البريء والجاني، وذلك ليعلم أنه أراد تنبيهه لمسألة ربه تعالى في عذاب أهل قرية فيهم المطيع والعاصي.
وقد قيل: إن في شرع هذا النبي عليه السلام كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة، فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله: فهلا نملة واحدة، وهو بخلاف شرعنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان بالنار. وقال «١» : «لا يعذب بالنار إلا الله تعالى» . فلا يجوز إحراق الحيوان بالنار، إلا إذا أحرق إنسانا فمات بالإحراق فلوارثه الاقتصاص بالإحراق للجاني.
وأما قتل النمل، فمذهبنا لا يجوز لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنخلة والهدهد والصرد» . رواه أبو داود «٢» بإسناد صحيح، على شرط الشيخين. والمراد النمل الكبير، السليماني كما قاله الخطابي والبغوي في شرح السنة. وأما النمل الصغير المسمى بالذر فقتله جائز، وكره مالك رحمه الله قتل النمل، إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل، وأطلق ابن أبي زيد جواز قتل النمل إذا آذت. وقيل: إنما عاتب الله هذا النبي عليه السلام لانتقامه بنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد منهم، وكان الأولى به الصبر والصفح، لكن وقع للنبي عليه السلام، أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان. فلو انفرد له هذا النظر، ولم ينضم إليه التشفي الطبيعي، لم يعاتب فعوتب على التشفي بذلك والله أعلم.