[٣٣ - إعلان البراءة من شخص]
يقول السائل: ما قولكم فيما نقرؤه في الصحف من إعلانات البراءة حيث يتبرأ الوالد من ولده مثلاً أو تتبرأ العشيرة من أحد أفرادها أفيدونا؟
الجواب: البراءة من الناس ومن أفعالهم لا تجوز إلا بسبب شرعي فمن ذلك البراءة من الكافرين والمشركين كما قال تعالى {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} سورة الأنعام الآية ١٩. وقال تعالى {بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة التوبة الآيات ١- ٣. وقال تعالى {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} سورة يونس الآية ٤١. وقال تعالى {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} سورة الشعراء الآية ٢١٦. قال الألوسي في تفسير الآية السابقة: [فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام بعد تصديقك والإيمان بك وتواضعك لهم فقل إني بريء مما تعملون من المعاصي، أي أظهر عدم رضاك بذلك وإنكاره عليهم] تفسير روح المعاني ١٠/١٣٣. وقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً على سبيل المدح والثناء بسيدنا إبراهيم الخليل حيث إنه قد تبرأ من كفر أبيه وقومه فقال تعالى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} سورة التوبة الآة ١١٤. وقال تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} سورة الزخرف الآية ٢. وقال تعالى {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} سورة الأنعام الآية ٧٨. وقال تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} سورة الممتحنة الآية ٤.
وتجوز البراءة أيضاً من أهل المعاصي وممن يرتكب الموبقات فيجوز التبرؤ مما يفعله المجرمون كمن يقتل أو يزني أو يغتصب
ونحو ذلك من الجرائم فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) قال الخطابي: أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا] فتح الباري ٨/٧٢
وروى الإمام البخاري في باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة ... قال حدثني أبو بردة بن أبي موسى رضي الله عنه قال وجع أبو موسى وجعاً شديداً فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً فلما أفاق قال أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) والصالقة هي التي ترفع صوتها بالبكاء والحالقة التي تحلق رأسها عند المصيبة والشاقة التي تشق ثوبها وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) رواه البخاري. وفي هذا الحديث أعلن النبي صلى الله عليه وسلم البراءة ممن فعل هذه الأفعال الشائنة قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (ليس منا) أي – ليس - من أهل سنتنا وطريقتنا , وليس المراد به إخراجه عن الدين , ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست مني , أي ما أنت على طريقتي ... والأولى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تعرض لأن يهجر ويعرض عنه فلا يختلط بجماعة السنة تأديباً له على استصحابه حالة الجاهلية التي قبحها الإسلام , فهذا أولى من الحمل على ما لا يستفاد منه قدر زائد على الفعل الموجود. وحكي عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويله ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر. وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل , أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله , حكاه ابن العربي. ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبري الأتي في حديث أبي موسى بعد باب حيث قال " برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم " وأصل البراءة الانفصال من الشيء] فتح الباري ٣/٢٠٩. وهنالك حالات أخرى أعلن النبي صلى الله عليه وسلم فيها البراءة ممن يفعل المعاصي منها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من حمل علينا السلاح فليس منا) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا) رواه مسلم. وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من انتهب نهبة فليس منا) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. والنهبة المال المأخوذ على وجه القهر والعلانية. وعن بريدة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف بالأمانة فليس منّا) رواه أبو داود وهو حديث حسن
وعنه أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من حلف بالأمانة ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) رواه أحمد ومعنى خبب أي أفسد المرأة على زوجها، وغير ذلك من الأحاديث. وينبغي التنبيه على أمرين هامين أولهما أن البراءة من النسب محرمة تحريماً صريحاً فلا يجوز لأحد أن يعلن براءته من نسبه كأن يتبرأ الولد من نسبه لأبيه أو يعلن الوالد براءته من نسب ابنه منه ونحو ذلك فهذا أمر محرم شرعاً فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [ ... وإنما المراد به من تحول عن نسبته لأبيه إلى غير أبيه عالماً عامداً مختاراً وكانوا في الجاهلية لا يستنكرون أن يتبنى الرجل ولد غيره ويصير الولد ينسب إلى الذي تبناه حتى نزل قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) ... وقال بعض الشراح: سبب إطلاق الكفر هنا أنه كذب على الله كأنه يقول خلقني الله من ماء فلا , وليس كذلك لأنه إنما خلقه من غيره ... ] فتح الباري ١٢/٦٧. وروى مسلم يإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) والأمر الثاني: ينبغي التحذير من قطع الأرحام فإن البراءة من أفعال العصاة والفساق لا تعني مقاطعتهم نهائياً فإن ذلك قد يزيد في عصيانهم وفسوقهم بل لا بد من التواصل معهم ونصحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لعلهم يتوبون ويرجعون عن غيهم وضلالهم فقد ثبت في الحديث عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث.
وخلاصة الأمر أن إعلان البراءة من العصاة والفسقة جائز إن وجد له سبب شرعي معتبر وأما إعلان البراءة بدون سبب شرعي فذلك حرام شرعاً كمن يتبرأ من أبيه لأنه تزوج زوجة ثانية.