التأثير في نفس القارئ مبلغا، ما كانت الألفاظ -مهما رقت- بمستطيعة أن تصل إليه بغير هذا التشخيص.
وها نحن نرى اليوم الأستاذ توفيق الحكيم يتناول أسطورة "بجماليون" اليونانية الأصل ليتخذ منها وسيلة لعلاج مشكلة نحس أنها تعني الكاتب، مشكلة الحياة التي لا يجد الفنان سبيلا إلى الصدوف عنها، مهما أصاب من نجاح، هي أبدا تلاحقه وتقتضيه حقوقها؛ وإلى هذا فطن اليونان فجرت أحدى أساطيرهم بأنه قد كان في جزيرة كريت فنان بارع عقد عزمه على ألا يتزوج ليوفر حياته على الفن، أو لأنه قد نفر من مظاهر استهتار النساء، كما رآهن بأعياد فينوس إله الحب، تلك الأعياد الصاخبة التي كانت تقام بمدينة "أماتونتوس" على الساحل الجنوبي للجزيرة؛ حيث كان معبد تلك الآلهة. وغضبت فينوس من كبريائه فألقت بقلبه حب تمثال عاجي من صنعه، اسمه "جالاتيه" واشتعلت بحواس الفنان المسكين رغبات الحياة، فضرع إلى الآلهة أن تنفث الروح بالتمثال. ورق قلب الآلهة لضراعته فاستجابت. وتزوج بجماليون من جالاتيه وكان له منها ولد هو "بافوس" مؤسس مدينة "بافوس" مدينة الحب الشهيرة بجزيرة كريت.
وشاء شيطان "الحكيم" أن يجسم جانبي النزاع في نفسه. فلجأ إلى أسطورة يونانية أخرى هي أسطورة "نرسيس" أي النرجس. وذلك أن خيال اليونان رأى النجرس ينمو دائما على شواطئ الغدران فاخترع له أسطورة. قالوا: إن النرجس كان في الأصل شابا جميلا يعرف أنه جميل، وكان يطيل النظر في مرآة المياه ليتمتع بجماله. فنسخته الآلهة زهرة لا تزال إلى اليوم تنبت على حافة المياه لتطل في صفحتها. وجاء علماء النفس المحدثون فاتخذوا من معنى هذه الأسطورة اسما لمرض نفسي هو غرام الشخص بنفسه على نحو ما يغرم بفتاة. حتى أصبحت تلك "النرجسية" Narcissisme من أبحاث المشتغلين بذلك العلم. ورأي الحكيم أن نرسيس يستطيع أن يرمز إلى تلك النزعة القوية التي تدعوه إلى الحياة وتصرفه عن الفن، فحزم أمره واتخذ من نرسيس حارسا لتمثاله، اتخذ من حياته حارسا لفنه وترك الكاتب لنرسيس الحرية في أن يلهو مع فتاة يونانية عرفت منذ عهد سوفوكليس بالحكمة هي "إيسمين". وكأني بالكاتب لا يخشى على نرسيس منها شيئا، وإنما هي ملهاة، عرضت نفسها على نرسيس فقبلها، وهي لن تؤدي به إلى الطغيان على بجماليون، لن تنصر الحياة على الفن، وفي هذا ما يحزن فلإيسمين في النفس قداسة.