إذا أخذنا بالقشور والهياكل تاركين اللباب والمعاني الدفينة، فسنفقد عندئذ أصالتنا دون أن نستعيض عنها بأصالة أخرى، وإنا لندعو إلى تعميق حياتنا والمد من آفاقها. وإنه لمن قصر النظر أو الجهل أن نظن أن تراثنا العربي يكفي اليوم ليغذي نفوسا تعلم وتحس في قرارة الإنسان وفي آيات الطبيعة أو في الصلة بينهما حقائق جميلة، لم يصل إليها التفكير العربي إلا مجزأة مفككة، أو ضائعة في خلال الألفاظ التي طالما أصبحت في أدبنا عبثا يقصد لذاته، وإنه لمن قصر النظر أو الجهل أن نرى مضاضة في أن نأخذ عن كبار مفكري الإنسانية وأدبائها دورسا، نشد بها من قدرتنا حتى نستطيع النهوض على أقدامنا والسير مع هؤلاء الرجال جنبا إلى جنب.
وأساس الأخذ عن الغير والإثراء به هو الفهم، الفهم العميق، وكل فهم صحيح تملك للمفهوم، ونحن نستطيع أن نتملك كل ما خلف البشر من تراث روحي، أساطير كانت أم حقائق، على ما في تلك الاصطلاحات من تحكم غير صادق في أغلب الأحيان. فكم من أساطير يصح أن تسمى حقائق! وكم من حقائق تكشف عن أساطير! والأمر بعد سيان، فما نريده هو أن نملك كل ما تصل إليه عقولنا، وسنرى عندئذ كيف ننمي هذه الثروة الروحية، بل إنها ستنمو نموا ذاتيا بما فيها من قوى كامنة، كالمال يولد بعضه بعضا ما خلصت لنا ملكيته.
هذا التملك هو سر ما وصل إليه الكُتَّاب الأوربيون من خلق جديد استقوا مادته من التراث القديم، فاليونان اتخذوا من الأساطير الشعبية التي كانت شائعة في القبائل الأندوأوربية الأولى - مادة لأَجَلِّ وأعمق ما خلف البشر من أدب وتفكير. وخلفهم في ذلك اللاتين ثم الفرنسيون في أدبهم الكلاسيكي. والأمر لا يقف عند الأدب بل يمتد إلى كل الفنون. وفي متاحف العالم أجمع لوحات لا عداد لها وتماثيل نحتت في كل الأزمنة وفي مختلف البلاد بوحي من تلك الأساطير.
وموضع العبرة فيما فعل الكتاب الأوربيون هو نفث الحياة في أساطير الأولين وتقريبها من حياتنا وتسخيرها لفهم الإنسان، فها هو برناردشو يكتب "بجماليون"، ويبلغ حرصه على الحياة ألا يتصور تمثالا من العاج أو المرمر، بل فتاة حية من دم ولحم، بائعة زهور لم تكن حياتها شيئا قبل أن يعثر بها بجماليون، كانت بائسة لا تعرف من الحياة إلا القليل، ولم يكن لها غير تلك النبرة المؤثرة، نبرة كوكني لندن، لهجة الشعب المتواضع، لهجة باعة الأسواق المشردين المنبوذين، عثر بجماليون بالفتاة، ولم يزل يلقنها نغمة الطبقة