فالعلاج إن لم يكن حاسما للفتنة، فهو مانع من أن تتأجج نيرانها، ذلك أن الفتن إذا عرضت للنفوس، وتبادلتها الأقوال، ورددتها الألسنة يكثر القول الذى يلهبها، وإطفاؤها أو تخفيفها يمنع ترديدها، وشغل الناس بغيرها.
فكان الأمر بالرحيل شغلا للناس عنها.
جاء عبد الله بن أبى بن سلول إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينفى ما نسب إليه، لأن المنافق يستتر دائما، ويمنع أن ينكشف، فإذا بدا بعض أمره حاول إعادة ستره.
قال ساترا كاذبا حالفا: ما قلت ما قال، ولا تكلمات به.
وكان في زعم قومه شريفا عظيما، فقال بعض من حضر من الأنصار من أصحابه حدبا على ابن أبى، أو تخفيفا لوقع الأمر، قال: عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل.
ومهما يكن من الأمر فقد عالج النبى الموقف بشغل الناس بالرحيل قبل ميقاته، حتى لقد قال أسيد بن حضير للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: يا نبى الله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح فى مثلها.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أو ما بلغك ما قاله صاحبكم؟ قال: وأى صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبى بن سلول. قال: وما قال؟ قال زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه إن شئت وهو الذليل وأنت العزيز.
ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبت منه ملكا.
مشى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصار في صدر ذلك اليوم الثانى حتى آذتهم الشمس.
ويقول في تعليل ذلك ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ليشغل الناس عن الحديث الذى كان بالأمس.
إنه عند ما نزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن آذتهم الشمس، ومست جنوبهم الأرض حتى ناموا.