وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ الْمَوَانِعِ، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ فَإِذَا اجْتَمَعَا أَلْحَقَ بِالْكُفْرِ الْغَلِيظَةَ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ انْقَضَتْ بِإِحْلَالِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَقُلْنَا نَحْنُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ يَصِحُّ مَعَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْأَمَةِ كَدِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، وَهَذَا أَثَرٌ ظَهَرَتْ قُوَّتُهُ لِمَا قُلْنَا إنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ فِيمَا يَقْبَلُهُ كَمَا قِيلَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْقَسْمِ وَالْحُدُودِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَا يَقْبَلُ الْعَدَدَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَنِكَاحُ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ مُقَابَلًا بِالرِّجَالِ لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ
ــ
[كشف الأسرار]
وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فَلَيْسَ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ إرْقَاقِ الْجُزْءِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ بَلْ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ حَالِهَا بِالرِّقِّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِمَنْ مَلَكَ سُرِّيَّةً مَذْهَبُنَا فَأَمَّا عِنْدَ الْخَصْمِ فَلَا يَجُوزُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي التَّهْذِيبِ، وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَمَةٌ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ أَمَةً لَا يَحِلُّ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ إرْقَاقِ وَلَدِهِ بِمَا مَعَهُ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ؛ لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَالسُّرِّيَّةُ الْأَمَةُ الَّتِي اتَّخَذَهَا مَوْلَاهَا لِلْفِرَاشِ وَحَصَّنَهَا وَطَلَبَ وَلَدَهَا فُعْلِيَّةٌ مِنْ السِّرِّ أَيْ الْجِمَاعِ أَوْ فَعُولَةٌ مِنْ السَّرْوِ السِّيَادَةُ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ، وَمِنْ التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا؛ لِأَنَّ مَا بَيَّنَّا هُوَ الَّذِي تَرَجَّحَ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ دُونَ قَوْلِهِمْ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ تَسَامَحَ فِي الْعِبَارَةِ فَإِنَّ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ يُفْهَمُ أَنَّ مُرَادَهُ بَيَانُ مِثَالٍ آخَرَ تَرَجَّحَ فِيهِ قَوْلُنَا بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ، وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تُرَجِّحُ قَوْلَنَا بِقُوَّةِ الْأَثَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ يَعْنِي إذَا فَاتَ طَوْلُ الْحُرَّةِ حَتَّى حَلَّ نِكَاحُ الْأَمَةِ إنَّمَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ الْمَوَانِعِ يَعْنِي لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمَةِ أَصْلًا، وَلَمْ يَجُزْ لِلْمُسْلِمِ تَزَوُّجُ كُلِّ كَافِرَةٍ فَإِذَا اجْتَمَعَا تَأَيَّدَا أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ وَأُلْحِقَ الْمَجْمُوعُ بِالْكُفْرِ الْغَلِيظِ، وَهُوَ كُفْرُ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالِارْتِدَادِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ ضَرُورِيٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ إرْقَاقِ الْجُزْءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالضَّرُورَةُ انْقَضَتْ بِإِحْلَالِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ مِنْ الْكَافِرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إحْلَالِ الْكَافِرَةِ كَالْمُضْطَرِّ إلَى الطَّعَامِ إذَا وَجَدَ الْمَيْتَةَ وَذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ؛ لِأَنَّ الذَّبِيحَةَ أَظْهَرُ، وَإِنْ كَانَتْ حَرَامًا بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَلَمَّا وَقَعَتْ الْغُنْيَةُ بِالْأَظْهَرِ لَمْ تَحِلَّ الْأُخْرَى.
وَقُلْنَا نَحْنُ: لَا بَأْسَ بِهِ أَيْ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ وَوُجُودِهِ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى عِنْدَ وُجُودِ الطَّوْلِ؛ لِأَنَّهُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ أَيْ؛ لِأَنَّ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ دِينٌ يَصِحُّ مَعَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ كَدِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ فَيَمْلِكُهُ الْحُرُّ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النُّكْتَتَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ إحْدَى نُكْتَتَيْ الْخَصْمِ وَقَوْلُهُ، وَهَذَا أَثَرٌ ظَهَرَتْ قُوَّتُهُ بِبَيَانِ تَأْثِيرِ النُّكْتَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ تَأْثِيرَ النُّكْتَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرِّقَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ أَصْلِ النِّكَاحِ بَلْ أَثَرُهُ فِي التَّنْصِيفِ فِيمَا يَقْبَلُهُ حَتَّى كَانَ طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَيْنِ، وَقَسْمُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ قَسْمِ الْحُرَّةِ وَحَدُّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ. وَقَوْلُهُ: فِيمَا يَقْبَلُهُ احْتِرَازٌ عَنْ نَحْوِ حَدِّ السُّرِّيَّةِ وَالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْحَيْضَةِ الْوَاحِدَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّنْصِيفَ فَلَمْ يُؤَثِّرْ الرِّقُّ فِيهَا، وَذَلِكَ أَيْ التَّنْصِيفُ يَخْتَصُّ بِمَا يَقْبَلُ الْعَدَدَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالتَّجْزِئَةَ؛ لِأَنَّ تَنْصِيفَ الشَّيْءِ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ ذَا عَدَدٍ وَذَا أَجْزَاءٍ لَا يُتَصَوَّرُ وَالنِّكَاحُ الَّذِي يَبْتَنِي عَلَى الْحِلِّ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ مُتَعَدِّدٌ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ أَرْبَعٍ مِنْ النِّسْوَةِ فَيَظْهَرُ التَّنْصِيفُ فِيهِ بِالرِّقِّ فَيَحِلُّ لِلْعَبْدِ نِكَاحُ امْرَأَتَيْنِ فَأَمَّا نِكَاحُ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ مُقَابَلًا بِالرِّجَالِ فَلَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ إذْ لَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ لِرَجُلَيْنِ بِحَالٍ لِيَتَنَصَّفَ بِالرِّقِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute