(بَابُ بَيَانِ سَبَبِهِ)
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهُوَ نَوْعَانِ الدَّاعِي وَالنَّاقِلُ أَمَّا الدَّاعِي فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ أَوْ الْقِيَاسِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بُدَّ مِنْ جَامِعٍ آخَرَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْحُكْمِ بِهِ قَطْعًا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ قِبَلِ دَلِيلِهِ بَلْ مِنْ قِبَلِ عَيْنِهِ كَرَامَةً لِلْأُمَّةِ وَإِدَامَةً لِلْحُجَّةِ وَصِيَانَةً وَتَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ
ــ
[كشف الأسرار]
فَقَدْ أَنْكَرُوا جَوَازَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ تَقْسِيمِ النَّاسِخِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ بَيَانِ سَبَب الْإِجْمَاعُ]
أَيْ سَبَبِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: الدَّاعِي: أَيْ السَّبَبُ الَّذِي يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِجْمَاعِ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ. وَالنَّاقِلُ: أَيْ السَّبَبُ النَّاقِلُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخَبَرَ أَيْ الْخَبَرَ الَّذِي يَنْقُلُ الْإِجْمَاعَ إلَيْنَا وَيَكُونُ الْإِسْنَادُ مَجَازِيًّا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّقْلَ وَمِنْ النَّاقِلِ الْمُعَرِّفُ أَيْ النَّقْلُ الَّذِي يُعَرِّفُنَا الْإِجْمَاعَ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ سَبَبًا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَثْبُتُ فِي حَقِّنَا بِوَاسِطَتِهِ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيَكُونُ النَّقْلُ طَرِيقًا إلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعٌ إلَّا عَنْ مَأْخَذٍ وَمُسْتَنَدٍ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْآرَاءِ وَالْهِمَمِ يَمْنَعُ عَادَةً مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى شَيْءٍ إلَّا عَنْ سَبَبٍ يُوجِبُهُ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ خَطَأٌ إذْ الدَّلِيلُ هُوَ الْمُوصِلُ إلَى الْحَقِّ فَإِذَا فُقِدَ لَا يَتَحَقَّقُ الْوُصُولُ إلَيْهِ فَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَكَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى الْخَطَأِ وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي الْإِجْمَاعِ.
وَأَجَازَ قَوْمٌ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ لَا عَنْ دَلِيلٍ بِأَنْ يُوَفِّقَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِاخْتِيَارِ الصَّوَابِ وَيُلْهِمَهُمْ إلَى الرُّشْدِ بِأَنْ يَخْلُقَ فِيهِمْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِذَلِكَ مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ الْعِلْمَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ بَلْ هُوَ مِنْ الْجَائِزَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ الْإِجْمَاعُ عَنْهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ دَلِيلٍ وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهِ فَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ لَكَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ الْحُجَّةُ وَلَمْ يَبْقَ فِي كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَائِدَةٌ، وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا عَنْ دَلِيلٍ قَدْ وَقَعَ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى بَيْعِ الْمُرَاضَاةِ أَيْ التَّعَاطِي وَأُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ حَالَ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ حَالِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا عَنْ وَحْيٍ ظَاهِرٍ أَوْ خَفِيٍّ أَوْ عَنْ اسْتِنْبَاطٍ مِنْ النُّصُوصِ عَلَيْهِ فَالْأُمَّةُ أَوْلَى أَنْ لَا يَقُولُوا إلَّا عَنْ دَلِيلٍ وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ الْعُلَمَاءِ، وَأَهْلُ الدِّيَانَةِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الِاجْتِمَاعُ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ جُزَافًا بَلْ بِنَاءً عَلَى حَدِيثٍ سَمِعُوهُ وَمَعْنًى مِنْ النُّصُوصِ رَأَوْهُ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ فَأَمَّا الْحُكْمُ جُزَافًا أَوْ بِالْهَوَى وَالطَّبِيعَةِ فَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْإِلْحَادِ، وَقَوْلُهُمْ لَوْ انْعَقَدَ عَنْ دَلِيلٍ لَمْ يَبْقَ فِي الْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصْدُرَ الْإِجْمَاعُ عَنْ دَلِيلٍ وَاحِدٍ لَا نَقُولُ بِهِ، إذْ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَا أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ شَرْطٌ. عَلَى أَنَّ فِيهِ فَوَائِدَ وَهِيَ سُقُوطُ الْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ وَكَيْفِيَّةُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَحُرْمَةُ الْمُخَالَفَةِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ الْجَائِزَةِ قَبْلَهُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ بَيْعِ الْمُرَاضَاةِ وَأُجْرَةِ الْحَمَّامِ فَالْإِجْمَاعُ فِيهِمَا مَا وَقَعَ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا اسْتِغْنَاءً بِالْإِجْمَاعِ عَنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ مُسْتَنِدٍ فَذَلِكَ الْمُسْتَنَدُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا ظَنِّيًّا كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا صَلُحَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا مِثْلُ نَصِّ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَذَهَبَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ وَالشِّيعَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَالْقَاشَانِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ إلَّا دَلِيلًا قَطْعِيًّا وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ لَا يُوجِبَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute