والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء. وأن كانت بقرة لها خوار. وإن كانت شاة تيعر. ثم رفع يديه إلى السماء.
وقال: اللهم هل بلغت؟. قالها مرتين، أو ثلاثا (١)».
والمقصود: أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد صارت فرض عين عليه. فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم، أو نساجتهم، أو بنائهم؛ صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم، يجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل. ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل. ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم وألزم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها: ألزم الجند بأن لا يظلموا الفلاح، كما يلزم الفلاح بأن يفلح.
ولو اعتمد الجند والأمراء مع الفلاحين: ما شرعه الله ورسوله، وجاءت به السنة وفعله الخلفاء الراشدون؛ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض. وكان الذي يحصل لهم من المغل أضعاف ما يحصلونه بالظلم والعدوان. ولكن يأبى لهم جهلهم وظلمهم إلا أن يركبوا الظلم والإثم. فيمنعوا البركة وسعة الرزق. فيجمع لهم عقوبة الآخرة، ونزع البركة في الدنيا.
فإن قيل: وما الذي شرعه الله ورسوله، وفعله الصحابة، حتى يفعله من وفقه الله؟.
قيل: المزارعة العادلة، التي يكون المقطع والفلاح فيها على حد سواء من العدل، لا يختص أحدهما عن الآخر بشيء من هذه الرسوم التي ما أنزل الله بها من سلطان. وهي التي خربت البلاد وأفسدت العباد ومنعت الغيث، وأزالت البركات، وعرضت أكثر الجند والأمراء لأكل الحرام. وإذا نبت الجسد على الحرام فالنار أولى به.
وهذه المزارعة العادلة: هي عمل المسلمين على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعهد خلفائه الراشدين، وهي عمل آل أبي بكر، وآل عمر، وآل عثمان، وآل علي، وغيرهم من بيوت المهاجرين. وهي قول أكابر الصحابة، كابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وغيرهم. وهي مذهب فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وداود بن علي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر، ومحمد بن نصر المروزي. وهي مذهب عامة أئمة المسلمين كالليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن وغيرهم.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات. ولم تزل
(١) صحيح البخاري الأيمان والنذور (٦٦٣٦)، صحيح مسلم الإمارة (١٨٣٢)، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (٢٩٤٦)، مسند أحمد بن حنبل (٥/ ٤٢٤)، سنن الدارمي الزكاة (١٦٦٩).