[حقيقة الدنيا]
ثم قال تعالى بعد هذا العرض: {اعْلَمُوا} [الحديد:٢٠] : مرة أخرى، هناك {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [الحديد:١٧] ، لما ندبهم إلى الصدقة وإلى الإقراض والإيمان قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الحديد:٢٠] .
هناك: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ} [آل عمران:١٤] إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَاِ} [آل عمران:١٤] .
وهنا قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} مثل قوله: (زُيِّنَ) {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:٢٠] وليس الكفر هنا بمعنى الكفر الذي هو ضد الإسلام، إنما معناه: الزُّرَّاع، كما في الآية الأخرى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:٢٩] ، وهو المثل الذي ضربه الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} [الفتح:٢٩] .
وهنا قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} يعني: الزُّرَّاع، والزارع يسمى كافراً؛ لأن الكفر في اللغة: الستر، والكافر سمي كافراً لأنه يستر آيات الوحدانية لله، وسمي ظلام الليل كافراً، ويقال: أدخلت يدها في كافر، أي: في ظلام الليل.
{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ، انظر مَثَل الدنيا! انظر المراحل والتصوير البليغ! {كَمَثَلِ غَيْثٍ} ، نزل وتقبلته الأرض فأنبتت الزرع، وأعجب زارعه، ثم يهيج إلى أقصى حدود بهجته، (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) .
بعد هذا (فتراه) ، والفاء هنا للتعقيب القريب، بعدما يصل إلى زهرته وإلى أوج نضرته يرجع فيصفَرُّ، وبعد الاصفرار يبقى فترة قليلة، {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:٢٠] ، كيف ينطبق هذا المثال على الدنيا؟ مثال في بني آدم: أول ما يخرج من الرحم مثل الحشيش والنبات الذي نبت لتوِّه، ثم بعد ذلك يأخذ في النمو إلى أن يكتمل شبابه، ويبلغ أوج قوته، ثم يبدأ فيرجع إلى أن ينحني ظهره، ويتحطم ويصير {إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج:٥] ، ويصير أقل من الطفل، وهكذا الدنيا: تبدأ تزدهر وتصل إلى كمالها، ثم تبدأ في العودة والرجوع حتى تصير حطاماً.
ثم قال تعالى في سورة الحديد: {وَفِي الآخِرَةِ.
} ، وهناك في سورة آل عمران: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:١٤] ، {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} للكفار الذين تقدم ذكرهم {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد:٢٠] للذين آمنوا، والذين أقرضوا الله، والذين أنفقوا،.
إلى آخر صفاتهم.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:٢٠] ، وفي آل عمران: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:١٤] ، وقطعاً الحياة الدنيا متاع الغرور، فمن اغتر بها خسر، كما في قوله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:١٤] ، إذاً: الدنيا متاع الغرور، فاحذر أن تغرك الدنيا.
وأيُّ عاقل يغتر بهذه الدنيا؟! إن كنت تمتلك مالاً، فهل هو أكثر من مال قارون؟! وإن كان لك ملك وسلطان، فهل هو أكثر من ملك سليمان؟! أنت ضعيف، وكم من الحيوانات أقوى منك.
قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] ، ثم ماذا كان؟ {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:٩٢] .
هل جُمِعت لك النساء؟! سليمان كانت له أكثر من مائة امرأة! هل جُمِعت لك الخيل؟! ومهما كانت كثرتها، وبأي حالة من الحالات فأنت فقير، فلم تغتر بالدنيا؟! ومن هنا من سلم من غرور الدنيا فهو زاهد، فالزاهد من سلم من آفاتها في ذاتها، كما قال بعض السلف: المدر والحجر سواء، وسيأتي التنبيه عليه.